الاستراتيجية الجديدة لـ “جيش الكيان الإسرائيلي” تخرج إلى العلن
مايكل هيرتسوغ
في 31 آب/أغسطس، نشر “جيش الدفاع الإسرائيلي” («قوات الدفاع الإسرائيلية») وثيقة من 33 صفحة بعنوان “استراتيجية «قوات الدفاع الإسرائيلية»”. وهي عبارة عن نسخة أقصر وغير سرية من وثيقة شاملة صُمّمت لتكون الإطار المفاهيمي للخطة الخمسية الجديدة لـ “جيش الدفاع الإسرائيلي” – المعروفة باسم “جدعون” – والتي لم توافق عليها الحكومة بعد.
وتحمل هذه الوثيقة الجديدة بصمة رئيس الأركان الجديد الجنرال غادي آيزنكوت وتشكّل سابقة في تاريخ إسرائيل، ليس لمجرد أنها تحدّد عناصر عقيدة الأمن القومي وتسند نفسها عليها، بل أيضاً لأنها نُشرت للعلن. ولم يكن لإسرائيل عقيدة أمنية وطنية رسمية مكتوبة منذ عهد أول رئيس وزراء للبلاد، دافيد بن غوريون. وقد تمّ استكمال آخر محاولة لوضع عقيدة مماثلة بين العامين 2004 و2007 (“لجنة مريدور”)، ولكن لم يتمّ عرضها للحصول على موافقة الحكومة: وتقوم “استراتيجية «قوات الدفاع الإسرائيلية»” حالياً بالبناء على تلك الجهود.
قد يكون النشر غير المسبوق مدفوعاً برغبة في صقل النقاش العام النشط بشأن تحديد أولويات الموارد الوطنية بين الاحتياجات الأمنية والاجتماعية والاقتصادية – ولنقله على وجه التحديد من مناقشة تقنية لمدخلات الميزانية إلى مناقشة استراتيجية للمخرجات الأمنية المطلوبة. وتستكشف الوثيقة الجديدة التغييرات الجوهرية في البيئة الاستراتيجية والعملياتية الإسرائيلية، والتي شهدت اضطرابات سريعة وعنيفة وانهياراً أو ضعفاً لأطر الدولة. وقد حالت الدرجة العالية من عدم اليقين بشأن الاستراتيجية والميزانية دون موافقة الحكومة رسمياً على أيّ خطة [عمل] متعددة السنوات لـ «قوات الدفاع الإسرائيلية» منذ عام 2011.
التحولات الإستراتيجية
تُبرز الوثيقة عدة تغييرات أساسية في المشهد الإستراتيجي الإسرائيلي:
1. حلّت جهات فاعلة “على مستوى أصغر من الدول” مسلحة بشكلٍ جيد وتتسم بالتطرف والعنف محل جيوش الدول المجاورة وتشكّل التهديد العسكري الرئيسي لإسرائيل، وتشمل «حزب الله» في لبنان و«حماس» في غزة (هناك عناصر جهادية من غير الدول تتجمع أيضاً على حدود إسرائيل، ولكنها لا تسبب نفس مستوى التهديد في الوقت الحالي). وفي السنوات الخمس عشرة الماضية وحدها، [نجحت] الجهات الفاعلة “على مستوى أصغر من الدول” على الساحتين اللبنانية والفلسطينية في إرغام إسرائيل على الدخول في خمس جولات من الصراع المسلح الكبير.
2. تستطيع هذه الجهات الفاعلة أن تستهدف الآن المراكز السكانية المدنية والمنشآت الاستراتيجية الحيوية الإسرائيلية بقوّة نيران شديدة، مما يمكنها أن تؤثّر على الصمود المجتمعي في البلاد وقدرتها على متابعة بذل مجهود حربي مستمر. ويتزايد حجم هذا التهديد وسرعته ومداه ودقته وحمولته وإمكانية تواصله باستمرار. بالإضافة إلى ذلك، يمكن أن تقوّض القدرات العسكرية المتطورة من قدرة «قوات الدفاع الإسرائيلية» الهجومية في البر والجو والبحر. ويشمل التهديد أيضاً أنشطة جوفية واسعة؛ فخلال “عملية الحافة الواقية” في غزة في العام الماضي، كشفت «قوات الدفاع الإسرائيلية» النقاب عن شبكة واسعة من الأنفاق عبر الحدود كانت «حماس» قد حفرتها لأغراض هجومية.
3. تتّخذ هذه الجهات الفاعلة “على مستوى أصغر من الدول” من المناطق المدنية مسرحاً لعملياتها، في محاولة منها لحرمان إسرائيل من حرية الحركة أو التحرّك أو لتقويض شرعية مجهودها الحربي. ولذا فإن هذا النوع من الحروب يشمل أبعاداً غير عسكرية مثل القضايا القانونية والإنسانية وتلك المتعلقة بوسائل الإعلام.
4. تراجعت المكانة السياسية لإسرائيل في الغرب على مرّ السنين، مما عقّد من الجهود الرامية إلى اكتساب شرعية دولية لازِمة على نحو متزايد لمحاربة العناصر المسلحة في المناطق المدنية. ومن الواضح أنّ السبب الرئيسي لهذا التراجع هو النزاع الإسرائيلي الفلسطيني الذي لا يزال دون حل، على الرغم من أن الوثيقة لا تؤكد صراحة على هذه النقطة.
5. في الوقت الذي تتزايد فيه التكاليف المحلية للأمن القومي، تتزايد أيضاً الضغوط الرامية إلى الاستثمار بصورة أكثر في الاقتصاد والمجتمع.
ومن المثير للاهتمام أنّ الوثيقة لا تذكر التهديد النووي الإيراني بشكلٍ مباشر، مما دفع ببعض المعلقين إلى الاستنتاج أنّ «قوات الدفاع الإسرائيلية»، وعلى عكس الحكومة الإسرائيلية، لا تعلّق نفس الحدّة على هذا التهديد بعد الاتفاق النووي بين إيران و«مجموعة الخمسة زائد واحد». ولكنّ إيران تلعب في الواقع دوراً هاماً في الاستراتيجية الكامنة وراء هذه الوثيقة. أولاً، بينما لا تتوقع «قوات الدفاع الإسرائيلية» أن يتحقق التهديد النووي خلال الإطار الزمني للخطة الخمسية القادمة، إلا أنها تدعو إلى تعزيز قدرات الردع والبقاء على أهبة الاستعداد لتوجيه ضربات استباقية محتملة ضد “بلدان ليس لها حدود مشتركة [مع إسرائيل]”. ثانياً، تجد «قوات الدفاع الإسرائيلية» أنّ الجهات الفاعلة «على مستوى أصغر من الدول» “التي تدعمها ايران” تشكّل تهديداً وشيكاً. وفي الغرف المغلقة يساور قيادة “جيش الدفاع الإسرائيلي” القلق من احتمال تمتّع هذه الجهات بالموارد الإيرانية التي لن تعد مجمّدة في أعقاب [إقرار] الاتفاق النووي مع إيران.
الاستجابة للتحدي
تحدّد «قوات الدفاع الإسرائيلية» ثلاث حالات أساسية لاستخدام القوة – الحرب الروتينية، والحرب في الحالات الطارئة، والحرب (واسعة النطاق) – ويمكن تمييزها الواحدة عن الأخرى من نطاق الموارد العسكرية والوطنية المعنية وتعريفها بأساليب المنطق المختلفة. وعلى الرغم من أنّ الصراعات المسلحة مع الجهات الفاعلة “على مستوى أصغر من الدول” تقع عادةً ضمن [فقرة الحرب في] “حالات الطوارئ”، تواصل «قوات الدفاع الإسرائيلية» التركيز على تعزيز قوتها في مجال “الحرب” على الأغلب، ولكن مع إضافة تعددية [الأدوار] في حالات الطوارئ. وفي الحالة الأخيرة، يمكن توجيه «قوات الدفاع الإسرائيلية» لتحقيق “الحسم العسكري” (أنظر أدناه)، وخاصة من خلال تدمير قدرات كبيرة للعدو، أو القيام بحملة محدودة مع التركيز على الأهداف الاستراتيجية. إن أياً من هاتين المهمّتين سيتم تصميمها للقضاء على إرادة العدو في القتال وتحقيق الردع على المدى الطويل. وفي غزة، على سبيل المثال، قد تفضّل «قوات الدفاع الإسرائيلية» على ما يبدو تطبيق هذا المفهوم باستخدام مزيج من قوة منهكة وعمليات برية محدودة بدلاً من الاستيلاء على الأراضي والتوصل إلى تفكيك كامل للقدرات العسكرية لحركة «حماس».
تفترض وثيقة استراتيجية «قوات الدفاع الإسرائيلية» سلسلة مطوّلة من الصراعات المسلحة مع الجهات الفاعلة “على مستوى أصغر من الدول” وتسعى لفرض فترات توقّف طويلة لهذه الصراعات عن طريق تحقيق الردع الموثوق والحفاظ عليه. وتتصوّر أيضاً بناء ردع “تراكمي” من خلال تحقيق سلسلة من الانتصارات العسكرية المؤكدة. ومع ذلك، فإن البيئة الاستراتيجية والعملياتية الجديدة قد أجبرت «قوات الدفاع الإسرائيلية» على إعادة تعريف مفهوم الردع واثنين من الركائز التقليدية الأخرى للاستراتيجية العسكرية (الإنذار المبكر والحسم العسكري)، وإضافة ركيزة رابعة وهي: الدفاع.
وحالياً، يتمّ تعريف الردع بمصطلحات ترتبط بطبيعة التهديد وتنوّعه، على عكس دوره شبه الثنائي في منع الحروب واسعة النطاق. ويتطلب ذلك تعزيزاً ثابتاً، ولهذا الغرض طوّرت «قوات الدفاع الإسرائيلية» مفهوم “الحملة بين الحروب” – أي الأنشطة السرية والخفية والعلنية في الحالات “الروتينية” والتي تهدف إلى إحباط تهديدات العدو الناشئة، وخاصة حيازة أسلحة محددة. واليوم، أصبح الإنذار المبكر عنصراً من عناصر التفوق الاستخباراتي، وينبغي أن يتحقق قبل أي نزاع مسلح وخلاله. ويفترض مصطلح الحسم العسكري أيضاً طابعاً أكثر نسبياً يتوافق مع الردع على المدى الطويل، في حين يتّفق مع الهدف الإسرائيلي التقليدي القاضي بخوض صراعات قصيرة الأمد (وغالباً ما ينضمّ إليه مصطلح “النصر” غير المتبلور، والتي تحدده الوثيقة بـ “تحقيق الأهداف السياسية التي حُددت للحملة، مما يؤدي إلى استتباب وضع أمني محسّن في مرحلة ما بعد الحرب”).
تمّ إضافة ركن الدفاع بغية التصدي للتهديد الكبير من نيران العدو في العمق الإسرائيلي. ويبقى العنصر الأهم لهذا الركن هو التطوير المستمر لنظام الدفاع النشط متعدد الطبقات ضدّ الصواريخ والقذائف. وإذا اضطرت «قوات الدفاع الإسرائيلية» إلى إعطاء الأولوية لما ستدافع عنه أولاً في نزاع معين (على سبيل المثال، عندما تواجه ترسانة الصواريخ الهائلة لـ «حزب الله»)، ستقوم بالتركيز على منع تعطيل المجهود الحربي وحماية البنية التحتية الوطنية الهامة قبل حماية المراكز المدنية. وتأخذ الوثيقة بعين الاعتبار أيضاً احتمال احتلال العدو لأراضي إسرائيلية، ويشمل ذلك احتمال إجلاء مدنيين (وهو ابتعاد عن المقاربة الإسرائيلية التقليدية)، إلا أنها تدعو لمنع العدو من الحصول على أي مكسب إقليمي بحلول نهاية المواجهة.
على الرغم من الوزن المتزايد المخصص للدفاع، تواصل «قوات الدفاع الإسرائيلية» إعطاء الأولوية للعمل الهجومي عند بناء قواتها واستخدامها على حدّ سواء. وفي هذا السياق، تسعى جاهدةً لإعادة التوازن إلى العلاقة بين قوة النيران والمناورة البرية، بعد أن مال هذا التوازن في السنوات الأخيرة على نحو متزايد نحو قوة النيران مع إيلاء تركيز مفرط على تحقيق نضوب كبير في قدرات العدو على مدار الصراع. وبموجب المفهوم الجديد، ينبغي على قوة النيران والمناورة البرية أن تعزز الواحدة الأخرى، مما يخلق تأثيرات تآزرية ونظامية. وتحدّد وثيقة «قوات الدفاع الإسرائيلية» الهدف من إعداد عشرات الآلاف من الأهداف في لبنان وسوريا والآلاف في غزة قبل النزاع، وضرب آلاف الأهداف يومياً خلال النزاع، بما في ذلك أهداف تسنح الفرص بضربها. ولتمكين ذلك، تقوم «قوات الدفاع الإسرائيلية» بإحداث ثورة لناحية الربط داخل فروع الخدمات والوحدات القتالية وعناصر الاستخبارات وبينها. وسيتمّ إطلاق المناورات البرية منذ بداية النزاع (خلافاً لما حدث في حرب لبنان عام 2006)، بما في ذلك التركيز الجديد على عمليات مفاجئة تستهدف مراكز ثقل في خطّ العدوّ الخلفي الاستراتيجي أو العملياتي، كما سيتم توظيف قوات برية أو خاصة كبيرة بقيادة هياكل قيادية جديدة. ويستند مفهوم الهجوم الشامل على الحفاظ على تفوّق إسرائيل النوعي، فضلاً عن تفوقها الجوي والبحري والاستخباراتي، وعلى ضمان شريحة كبرى من القوات والقدرات.
وأخيراً، تُحدث الوثيقة سابقةً بتكريس الانتباه على الجوانب غير الحركية للنزاع المسلح، فتعتمد نهجاً متعدد التخصصات تجاه هذا النزاع. كما تعتبر الفضاء الإلكتروني جبهةً أخرى يجري حالياً إعداد “ذراع ألكترونية” للاهتمام بها. كما تسلط الضوء على الحاجة إلى الاستعداد لحرب التصورات ومعالجة الأبعاد القانونية والإنسانية والمعلوماتية بدقة؛ مما يعني أنه ينبغي على إسرائيل أن تسعى لتحقيق الشرعية السياسية والحفاظ عليها لاستخدام القوة من أجل تعزيز حرية تحرّك «قوات الدفاع الإسرائيلية» في البيئة الدولية الراهنة.
المحصلة
تشكل “استراتيجية «قوات الدفاع الإسرائيلية»” مساهمة هامة في التفكير الاستراتيجي الإسرائيلي والنقاش العام في البلاد بشأن الأمن القومي، وتستحق أن يتم تعزيزها من خلال استراتيجية حكومية للأمن القومي.
خلاصة القول هي أنّ إسرائيل تواجه تحديات بالغة التعقيد في مشهد يتغيّر بسرعة، مما يشكّل معضلات استراتيجية وعملياتية ومحلية كبيرة. وقد تجسّدت هذه التحديات عن طريق «حزب الله» المدعوم من ايران، مع ترسانته التي تشمل أكثر من 100,000 صاروخ وقدرته على إطلاق أكثر من 1,500 صاروخ يومياً لمدة أسابيع. وفي الوقت الذي تستعد فيه إسرائيل لمواجهة عواقب اتفاق نووي قد يضاعف الشكوك والتهديدات القائمة من وكلاء إيران، ينبغي أن توفّر وثيقة «قوات الدفاع الإسرائيلية» أساساً سليماً للحوار الاستراتيجي الثنائي الأمريكي-الإسرائيلي بشأن المخاوف الأمنية الإسرائيلية الكبرى في السنوات المقبلة.
مايكل هيرتسوغ، هو عميد (متقاعد) في “جيش الدفاع الإسرائيلي” وزميل “ميلتون فاين” الدولي في معهد واشنطن. وقد شغل سابقاً منصب رئيس “قسم التخطيط الاستراتيجي” في “الجيش الإسرائيلي” ورئيس ديوان مكتب وزير الدفاع الإسرائيلي (إهود باراك)، حيث شارك تحت هذه الصفة في وضع استراتيجية “جيش الدفاع الإسرائيلي” وتحديث نظرية الأمن القومي الإسرائيلي.