منعاً لهجمة الفساد المرتدّة… الفساد شارك العراقيين جميعاً في لقمة عيشهم، بل استحوذ على الحصة الأكبر منها، وهو الذي يقف وراء انهيار نظام الخدمات العامة، بل يكمن أيضاً وراء سقوط ثلث مساحة البلاد في أيدي منظمات الارهاب…
معلوم ان الإطاحة بالفاسدين والمفسدين في دولتنا كلهم دفعة واحدة ليست بالأمر الممكن حتى لو كانوا جميعاً معروفين بأسمائهم وعناوينهم، مثلما من غير الممكن تجريد كبار مسؤولي الدولة من امتيازاتهم غير المشروعة، على صعيد الرواتب والمخصصات، كلها بضربة واحدة. والسبب بكل بساطة لأن الطبقة العليا في النظام البيروقراطي لدولتنا كبيرة للغاية، وأفرادها، بمن فيهم الفاسدون والمفسدون، يمسكون بمفاصل الدولة الرئيسة ويُمكنهم شنّ هجمة مرتدة مؤذية.
قرار رئيس الحكومة بتخفيض الرواتب والمخصصات للنواب والوزراء وسائر أفراد الطبقة الحاكمة انطوى على قدر من الشجاعة، لا شكّ في هذا، وربما لم يكن في المستطاع توفر هذا القدر في ظروف أخرى. الأكيد أن السيد العبادي استثمر الحركة الاحتجاجية المتواصلة ودعم المرجعية الدينية في النجف لمطالبها كيما يتقدم بحزمة إصلاحاته. ولولا هذه الحركة وهذا الدعم كان من الصعب الإعلان عن هذه الحزمة، وبالذات البند الخاص بتخفيض الرواتب والمخصصات للطبقة الحاكمة والبند الخاص بمكافحة الفساد الإداري والمالي، فهذا كان على مدى السنين العشر الماضية أول وأقوى الخطوط الحمراء، والمسّ به كان سيُزلزل الأرض تحت أقدام الحكومة ورئيسها.
أما قرار إعفاء مئة وثلاثة وعشرين من وكلاء الوزارات والمدراء العامين فخطوة صغيرة حتى بالمقارنة مع خطوة تخفيض الرواتب والمخصصات. وثمة سببان لاستصغار هذه الخطوة، الأول ان العدد(123) ضئيل بالقياس مع العدد الكلي المهول لوكلاء الوزارات والمدراء العامين ومن هم بدرجتهم في دولتنا، وهو عدد يبلغ نحو سبعة آلاف. أما السبب الثاني فان المبرر المقدّم لاعفاء هؤلاء (قيل أنهم وجبة أولى) هو إلغاء وزاراتهم أو مديرياتهم أو لعدم كفاءتهم كما جاء في بيان لمكتب رئيس الوزراء، أي ان الفساد الإداري والمالي لم يكن سبباً لإعفاء أي من هؤلاء، وهذه علامة غير طيبة، لأنها تقلل من الثقة بالخطط المعلنة لمكافحة هذا الفساد الذي لم يبق أحد داخل الدولة وخارجها لم يحمّله المسؤولية عن هذ الخراب العاصف بالدولة والمجتمع منذ سنوات.
الفساد شارك العراقيين جميعاً في لقمة عيشهم، بل استحوذ على الحصة الأكبر منها، وهو الذي يقف وراء انهيار نظام الخدمات العامة، بل يكمن أيضاً وراء سقوط ثلث مساحة البلاد في أيدي منظمات الارهاب، ومن المفترض ان تكون لمكافحته الأولوية. كان من اللازم الإعلان عمن طالت إجراءات الإعفاء والإقالة لأسباب تتعلق بفسادهم.. هذا إجراء أنفع من إعفاء 123 وكيلاً ومديراً عاماً بسبب الغاء دوائرهم أو لعدم كفاءتهم. الإجراءات بحق الفاسدين والمفسدين تعني أولاً استعادة الأموال التي نهبوها، وتعني ثانياً وقف صرف أي راتب تقاعدي لهم، وتعني ثالثاً معاقبتهم عن جرائم كبيرة ارتكبوها في حق الشعب فيكونوا بذلك عبرة لغيرهم، اما الإعفاء لاسباب تتعلق بالغاء وزارات ومديريات عامة أو بعدم الكفاءة فلن يخفّف من العبء على الموازنة العامة، والأهم لن يكون جرس إنذار أخير لجيش الفاسدين والمفسدين في جهاز الدولة، المتحفّز لتعويق عملية الإصلاح قبل شنّ هجمة مرتدة عليها بإفراغها من محتواها في الأقل.