الفيلم الهندي في ذاكرتنا مفعم بأعمال خارقة لم يأت بمثلها الأولون ولا الآخرون، ومجازفات تقطع مشاهدها نياط القلب إثارة ودهشة ورعباً وهلعاً، وبمواقف رومانسية لا نظير لها حتى عند أساطين الأدب الرومانسي في ذروته.
لكنّ الرواية التي قدّمتها السلطات التركية أول من أمس بشأن حادث موت الصحفية البريطانية المعروفة جاكلين آن (جاكي) ساتون، تجاوزت في جموح خيالها كل الفبركات والتلفيقات والحِيَل السينمائية لأفلام بوليوود جميعها.
السيدة ساتون هي مديرة معهد صحافة الحرب والسلام (IWPR) في العراق، وقد عُيّنت في هذا المنصب في أواخر حزيران الماضي خلفاً للشهيد عمار الشابندر الذي قضى في تفجير إرهابي في بغداد قبل ذلك بأقل من شهرين. وكانت جاكي تقيم في أربيل، وسافرت الأسبوع الماضي إلى لندن للمشاركة في جلسة لاستذكار زميلها الشابندر نظمها المعهد، ثم طارت من لندن الى اسطنبول السبت الماضي في طريق العودة الى أربيل. من المفترض أن تكون طائرتها قد وصلت الى مطار اتاتورك الدولي بطائرة تركية في الساعة العاشرة مساء، وأن تواصل رحلتها الى أربيل عند منتصف الليل، أي بعد ساعتين من وصولها من لندن، لكن الطائرة التركية أقلعت الى أربيل من دون أن تحمل جاكي التي أعلنت السلطات التركية لاحقاً أنها وُجِدت ميتة في المرافق الصحية للمطار.
السلطات التركية لم تلتزم الموضوعية في معلوماتها عن الحادث الأليم، فهي أوصلت إلى الإعلام ما مفاده أن جاكي قد انتحرت.. كيف؟ المعلومات التركية قالت إن جاكي شنقت نفسها برباط حذائها!! وفسّرت الحادث، كما أفادت وسائل إعلام تركية، على أنه يرجع إلى عدم لحاق جاكي بطائرة أربيل، وأنه لم تكن لديها نقود كافية لشراء بطاقة سفر لرحلة أخرى الى عاصمة إقليم كردستان!
حتى بوليوود لم يجمح بها الخيال إلى هذا الحدّ.. كيف لا تلحق جاكي برحلة أربيل وقد وصلت إلى مطار اتاتورك قبل ساعتين من موعدها؟.. كيف لا يكون لدى جاكي ساتون الصحفية المعروفة سابقاً في هيئة الاذاعة البريطانية (BBC) والمسؤولة المرموقة في منظمة مرموقة، 400 دولار لقطع تذكرة جديدة إلى أربيل؟.. ثم: كيف لسيدة بمكانة جاكي ساتون وبدخلها الشهري الجيد جداً أن لا تحمل بطاقة ائتمان مصرفي واحدة في الأقل؟.. حتى شحاذي لندن وسواها من المدن البريطانية والأوروبية يملكون بطاقات الائتمان المصرفية التي لا يشترط لإصدارها الا وجود عنوان إقامة في أي مدينة؟
جاكي ساتون أغتيلت بالتأكيد.. القتلة الذين اغتالوها في المرافق الصحية لمطار أتاتورك فعلوا ذلك عن سابق تخطيط وتصميم وترصد بالتأكيد، وبالتأكيد أيضاً هم تلقّوا تسهيلات من مسؤولين في مطار أتاتورك، بالضبط كما حصل مع الآلاف من مقاتلي داعش الذين التحقوا بالتنظيم الإرهابي وقاتلوا في صفوفه هنا في العراق وفي سوريا، فالثابت الآن ان ذلك تمّ بتسهيلات تركية رسمية غير محدودة.
“الفيلم التركي” الذي أخرجته سلطات مطار أتاتورك وظهرت فيه “بطلة” الفيلم تشنق نفسها في مراحيض المطار لأن طائرة أربيل “فاتتها”، كل أحداثه المتخيلة مُلفّقة تماماً على نحو بائس.. لن ينفع هذه السلطات إلا أن تكشف عن الحقيقة.. والحقيقة لا يمكن الوصول إليها من دون أن يبدأ التحقيق داخل مطار أتاتورك نفسه…