فعل شائن في كرادة مريم..
يبدو أننا كنّا على وهم كبير وفي ضلال مبين، إذ اعتقدنا بأننا قد تركنا ذلك العهد خلفنا، وأنه صار شيئاً من الماضي. أعني العهد الذي كانت فيه عناصر الأمن تبيح لنفسها حقّ انتهاك أحكام الدستور والتجاوز على سائر القوانين الناظمة والضامنة لممارسة الحريات والحقوق، وفي مقدمها حقوق الإنسان.
أمس تبيّن لنا بالصوت والصورة أننا لم نتزحزح قيد أنملة عن ذلك العهد البغيض الذي كانت فيه الأنظمة الدكتاتورية ترتعد فرائصها وتتزلزل أركانها لمجرد سماع كلمات مثل احتجاجات شعبية وتظاهرات تطالب بالحقوق وتدعو إلى الإصلاح، فتطلق عناصرها الأمنية للفتك بالمحتجّين والمتظاهرين وقمعهم بوحشية، كما كانت عليه الحال إن في زمن رئيس الوزراء السابق نوري المالكي أو في عهد الدكتاتور المقبور صدام حسين.
أمس ذهب بضع عشرات من نشطاء الحراك الشعبي، بينهم مثقفون معروفون، إلى المنطقة القريبة من مدخل المنطقة الخضراء المؤدي إلى مجلس النواب في حي كرادة مريم ببغداد .. ذهبوا إلى هناك من دون أن يحمل أحد منهم ولو ملعقة بلاستيك مما يستعمل لتذويب السكر في كوب الشاي، تأكيداً لسلميّتهم التي أشاد بها غير مرة رأس السلطة التنفيذية في البلاد، رئيس الوزراء .. ذهبوا بعدما أعلنوا قبل أربعة أيام عن أنهم سيكونون في المكان عينه وفي الزمان نفسه، بمهمة وطنية سلمية هي حضّ أعضاء مجلس النواب على تسهيل وتسريع عملية الإصلاح السياسي والإداري والمالي التي تعهّد بإنجازها البرلمان نفسه بعد الحكومة قبل ثلاثة أشهر.
ذهب الناشطون إلى كرادة مريم أمس مثقلين بمشاعر الخيبة والإحباط ،لأن هلال الإصلاح الحقيقي تأخّر كثيراً ميعاد بزوغه، فإذا بهم يهاجمهم وحش أمني كاسر يتجاوز على نحو سافر على حقّهم الدستوري في التظاهر والتعبير عن الرأي، بدل أن يخرج إليهم من ينوب عن “ممثليهم” في البرلمان أو عن الحكومة ليستمع إليهم ويطمّنهم بكلمتين طيبتين أو ثلاث.
عناصر الأمن الذين “أنهدّوا” على النشطاء أمس لم يفرّقوا في شيء في سلوكهم السيّئ عن سلوك أقرانهم في عهد الحكومة السابقة ولا عن سلوك أمن صدام حسين، من اعتقال النشطاء وتفريقهم بالقوة الغاشمة وضربهم، إلى إسماعهم الكلمات النابية التي يفترض أن تظل حكراً على “أبناء الشوارع”!
ما ضرّ العناصر الأمنية التي أُرسلت إلى كرادة مريم أمس لو أنها تعاملت بإنسانية ووطنية مع النشطاء المتجمعين على بعد مئات الأمتار عن بوابة مجلس النواب وخلف صفوف من الحواجز الكونكريتية المكينة والشاهقة؟ .. ما ضرّها لو أشادت بسلميّتهم، كما فعل القائد العام للقوات المسلحة، وطلبت إليهم بأدب وتهذيب أن يتفرقوا سلمياً أيضاً بعد وعدهم بنقل مطالبهم إلى البرلمان؟
نعم، ما ضرّهم لو فعلوا هذا بدل الذي أقدموا عليه مما يُعدّ فعلاً شائناً في النظام الديمقراطي؟ .. هذه االأسئلة موجّهة إلى وزير الداخلية وإلى قائد قوات عمليات بغداد وقائد قوات الطوارئ وقائد قوات مكافحة الشغب، وقبلهم وبعدهم إلى القائد العام.