هل تصبح إيران شيطان العرب الأكبر؟ بقلم فهمي هويدي
برغم أن ثمة أسبابا موضوعية وجيهة للاشتباك بين العرب وإيران، إلا أننا ينبغي أن نتساءل: أما من نهاية لهذا الصراع؟
(1)
لدى قطاع عريض من الرأي العام العربي، أصبحت إيران تحتل موقع «الشيطان الأكبر». وهو الوصف ذاته الذي أطلقته على الولايات المتحدة في أعقاب الثورة الإسلامية التي احتفت بها والتفت حولها الجماهير العربية قبل 37 عاما. إلا أن الأمر اختلف الآن، بحيث لم تنفض الجماهير من حول الثورة فحسب، وإنما أساءت الظن بها إلى الحد الذي أحدث انتكاسة في موقفها إزاءها
ولعلي لا أبالغ إذا قلت إن الحفاوة العربية كانت منصبة على الثورة حين كانت بعيدة عنهم. لكن المزاج العربي تغير وانقلب حين اقتربت الدولة الإيرانية من العالم العربي، وصار لها حضور في سوريا ولبنان والعراق واليمن. وهي الأقطار التي تباهى البعض في طهران بأن نفوذ بلدهم وصل إليها وصار مؤثرا في خرائطها
وسياساتها
صحيح أن ثمة دوائر شعبية (سلفية بالأساس) وأقطارا عربية ناصبت الثورة الإسلامية العداء من البداية، قبل تمدد النفوذ وانتشاره النسبي، وكان ذلك راجعا لأسباب مذهبية تارة ولمخاوف سياسية تارة أخرى متأثرة بالضغوط الغربية، إلا أن الوضع اختلف الآن بصورة درامية. فتصالحت إيران مع الدول الغربية ومع «الشيطان» الأميركي الأكبر بدرجة أو أخرى، في حين تباعدت المسافات وتعمقت الفجوات بينها وبين أغلب الأنظمة فضلا عن الشعوب العربية. وفي الوقت الذي لاحت فيه بوادر استعادة الثقة بين طهران والدول الغربية، فإن الشكوك والهواجس إزاء إيران تضاعفت في العالم العربي. وبعدما خرجت التصريحات من طهران مزهوة بوصول نفوذ إيران إلى أربع عواصم عربية، فإن الفجوة بينها وبين العالم العربي لم تعد بحاجة إلى ضغوط غربية أو دسائس إسرائيلية لكي تزداد اتساعاًوعمقا. وحين وقفت إيران داعمة للنظام السوري ضد شعبه الذي ثار عليه، فلم يعد بمقدورها أن تتحدث عن دفاعها عن المستضعفين ومنازلة المستكبرين، لأنها بذلك برهنت على أنها أسقطت «شاها» في إيران في حين ساندت «شاها» آخر في سوريا
(2)
هذا الذي ذكرت تلخيص لبعض ما قلته في لقاءات عدة أثناء زيارتي الأخيرة لطهران. أحدها مع رئيس مجلس الأمن القومي ووزير الدفاع الأسبق علي شمخاني، والثاني مع علي ولايتي مستشار المرشد ووزير الخارجية الأسبق ومدير «مركز الدراسات الاستراتيجية»، والثالث في اجتماع مع «مركز الدراسات الدولية» بوزارة الخارجية، والرابع مع أساتذة ودارسي جامعة الدراسات العالمية، والخامس في اجتماع مع نخبة من مثقفي التيار الإصلاحي
خلال اللقاءات عرضت لتلك الملاحظات وأضفت إليها تحليلا لمسار وتحولات العلاقات العربية ـ الإيرانية، وكانت مسألة التدخلات الإيرانية في العالم العربي هي الأبرز في الحوارات التي دارت (حين التقيت السيدين شمخاني وولايتي لاحظت أن كلا منهما وضع أمامه ترجمة فارسية لمقالة نشرت لي في 18/12/2014 انتقدت فيها تصريحا نقلته وكالات الأنباء قبل ذلك التاريخ بثلاثة أيام تحدث فيه ولايتي عن وصول نفوذ إيران إلى العواصم العربية الأربع). في المعلومات المتعلقة بالتدخلات الإيرانية قيل لي ما يلي
:
ـ إن علي ولايتي لم يصرح بشيء بخصوص نفوذ إيران في العواصم الأربع. ولكن الذي قال ذلك الكلام شخص آخر كان يعمل في «مركز الدراسات الاستراتيجية» انفصل عنه، وهو الآن عضو منتخب في مجلس الشورى
ـ إن إيران لا تدافع عن شخص الرئيس الأسد أو نظامه كما أنها لم تشترك في قتل السوريين، ولكن انشغالها بالقضية الفلسطينية هو العامل الأساسي الذي دفعها إلى الذهاب إلى سوريا، التي تشكل حليفا أساسيا للفلسطينيين ولـ «حزب الله» بدوره المشهود في الدفاع عن القضية الفلسطينية
ـ إن التدخل في اليمن شائعة لا أساس لها من الصحة ومساعدة الحوثيين الذين ليسوا من الشيعة أصلا لم تتجاوز حدود الرأي والنصيحة التي استجابت لها طهران حين وجهت إليها. وكانت قد نصحتهم بعدم التقدم صوب الجنوب بعد دخولهم إلى صنعاء، ولكنهم لم يقبلوا بذلك الرأي وواصلوا إلى عدن ووضعوا الجميع أمام الأمر الواقع، وجرى بعد ذلك ما جرى. وفي كل الأحوال، فإن إيران لم ترسل مستشارين إلى اليمن كما لم ترسل سلاحا إلى الحوثيين كما قيل
ـ استقرار الأوضاع في العراق يعد جزءا من ضمانات الأمن القومي لإيران. وهي حريصة على تثبيت الأوضاع هناك من الناحية الأمنية، ولا شأن لها بالأوضاع السياسية الداخلية
ـ إيران ليست طرفا في التفاعلات الحاصلة في لبنان، و «حزب الله» جزء من القوى السياسية هناك ويمارس أنشطته وصلاحياته في الإطار المتفق عليه بين مختلف القوى اللبنانية
ـ المثقفون الإصلاحيون لهم تحفظهم على التمدد الإيراني خارج الحدود، وقالوا إن ذلك كان رأي الإمام الخميني، الذي اعترض على إرسال مجموعة من «حرس الثورة» إلى لبنان في الثمانينيات، استجابة لطلب الحكومة السورية. حدث ذلك حين كان السيد علي خامنئي (المرشد الحالي) رئيسا للجمهورية. وبعدما وافق السيد خامنئي على إرسال ألفي عنصر من الحرس، فإن الإمام الخميني أوقف العملية، وقال إن أبناء المنطقة يجب أن ينهضوا بذلك الواجب من أنفسهم، وكانت تلك القصة وراء فكرة إنشاء «حزب الله» وتأهيله للتصدي للعدوان الإسرائيلي
(3)
لم أجد تلك الردود التي تعلقت بالتدخل مقنعة، وهو ما قلته صراحة في كل لقاء، وفي تحليل المشهد ذكرت أني بين مرحلتي الثورة الإسلامية والدولة الإيرانية. في مرحلة الثورة الإسلامية التي تبدت خلال السنوات العشر الأولى، أثناء قيادة الإمام الخميني، كانت القيم والتطلعات مختلفة في حدود نصرة الإسلام وتحدي الهيمنة الغربية والاستكبار العالمي. وكانت نظرة طهران للعالم العربي الإسلامي أكثر انفتاحا ونضجا برغم نشوب الحرب العراقية ـ الإيرانية واصطفاف أغلب دول المشرق إلى جانب بغداد. وبعد وفاة الإمام الخميني وانتهاء الحرب مع العراق حدث التحول التدريجي باتجاه الانحياز إلى حسابات الدولة الإيرانية وليس الثورة الإسلامية. ولا أستبعد أن يكون ذلك التحول قد تأثر بدرجة أو أخرى بأجواء عداء بعض الأنظمة العربية للثورة الإسلامية، الأمر الذي أسهم في إحياء الشعور القومي المسكون في جانب منه بالمشاعر السلبية إزاء العرب وبقايا الصراع السياسي والمذهبي بين الدولتين الصفوية والعثمانية بين القرنين السادس عشر والتاسع عشر. ونستطيع أن نتفهم أكثر ملابسات ذلك التحول إذا تذكرنا أن إيران حين خرجت من الحرب محملة بجراحها، فإنها وجدت نفسها تحت ضغط الحصار الغربي وحصار الأنظمة العربية، الأمر الذي دفعها إلى التحصن وراء مقومات وجودها واستمرارها، وكان الحس الوطني والقومي أحد أبرز تلك المقومات
في تلك الأجواء برزت حسابات الدولة الإيرانية التي تمثلت في هويتها المذهبية وتطلعات التمدد في محيطها الجغرافي. ساعد على ذلك وشجع عليه حالة الضعف المخيم على دول المحيط الذي أدى إلى انهيار النظام العربي وأحدث فراغا شديدا في موقع القيادة والتأثير، وفى ظله انفراط عقد العالم العربي بحيث أصبح كيانات متناثرةواهنة الإرادة وفاقدة للحصانة، وهو ما عبرت عنه مقالة قيمة نشرتها صحيفة «الحياة» اللندنية في 20 كانون الثاني الماضي كان عنوانها «قوة إيران أم ضعف العالم العربي؟». إذ خلص فيها صاحبها حسن نافعة، أستاذ العلوم السياسية بجامعة القاهرة، إلى أن «جوهر المشكلة التي يواجهها العالم العربي لا يكمن في قوة إيران أو حتمية المواجهة معها، ولكن في ضعف العرب، بما يثير لعاب كل دول الجوار القوية، وعلى رأسها إيران وتركيا وليس لعاب إيران وحدها
(4)
إيران بعد الانتخابات التشريعية الأخيرة التي حقق فيها الإصلاحيون تقدما مقدرا تجدد شبابها، إذ تتقدم بخطى ثابتة نحو استعادة عافيتها وتعزيز حصاناتها، خصوصا بعد الاعتراف بها دولة نووية ورفع الحصار الذي ضرب عليها قبل 37 عاما. ثم انها تتطلع لإحداث نهضة اقتصادية بعد استعادة أرصدتها التي كانت مجمدة في البنوك الغربية (أكثر من 130 مليار دولار). وفي الوقت الذي تتحالف فيه مع روسيا الاتحادية برغم تعارض المصالح بينهما، كما أنها فتحت أبوابها لتنشيط علاقاتها الاقتصادية مع تركيا من خلال الزيارة الأخيرة التي قام بها لطهران أحمد داود أوغلو رئيس الوزراء التركي. إذ تمت فيها تسوية العديد من المشكلات الاقتصادية العالقة، وتم الاتفاق على زيادة التبادل التجاري بين البلدين لكي يصل إلى 30 مليار دولار سنويا. وحدث ذلك برغم الخلاف المذهبي المعلن بين البلدين (إيران الشيعية وتركيا السنية) وبرغم الخلاف السياسي الجوهري بينهما حول الموقف من النظام السوري
ما أريد أن أقوله إن إيران أصبحت رقما مهما في المنطقة يتعذر تجاهله، وهي تتجه لأن تصبح رقما أكثر أهمية، لا نستطيع أن نتجاهله ونكتفي بشيطنته وهجائه في وسائل الإعلام ليل نهار. لذلك فإن الملف يستحق حوارا جادا بين الطرفين ينطلق من الاعتراف بأن كل طرف أساء إلى الآخر، وأن الطرفين مضطران إلى التعايش مع بعضهما البعض برغم ما بينهما من خلافات، ليس فقط بأمر الجغرافيا ولكن أيضا لأن ثمة عقيدة سماوية ينتسبان إليها كلعلى طريقته. ولست أشك في أن لدى الجانبين عقلاء يستطعيون إدراك مخاطر استمرار الخصام والتنابذ، ومن ثم القيام بنقد موضوعي يمهد لصياغة تلك العلاقة على نحو يعالج الفجوة القائمة ويحقق التعايش المنشود
أختم بالتنبيه إلى أمور ثلاثة هي
:
ـ إن الخلاف العربي مع إيران ينبغي أن يظل محصورا في حدود سياسات الدول، بمعزل عن العوامل المذهبية والعرقية، لأن الدخول في متاهة الصراع بين السنة والشيعة أو العرب والفرس يؤدي إلى تأبيد الصراع الذي لا نهاية له ولا منتصر فيه
ـ إن الدولة القومية في إيران مستعدة للتفاعل مع الغرب والتقارب مع إسرائيل بأكثر من استعدادها للتفاعل مع العالم العربي، وبين الإصلاحيين من يعلن عن ذلك صراحة. وذلك مآل ينبغي أن يظل في الحسبان إذا استمر التخاصم مع العالم العربي بوتيرته الراهنة
ـ إننا ينبغي أن ندرك أن الشعب الإيراني يظل شقيقا مهما تباعدت عنه المسافات أو تراكمت المرارات، وأيا كان رأينا في ممارسات حكومته، فإن انتماءه إلى الأسرة الإسلامية يظل باقيا. ولا أعرف عقلا رشيدا يؤيد تأبيد مخاصمة عضو الأسرة أو بتره حتى إذا ما شرد أو جنح، حيث لا مفر من ضمه واحتوائه يوما ما. لذلك فإن سؤال الساعة هو: أين دور العقلاء والراشدين من الجانبين؟ وهل يعقل أن تهدأ وتيرة الصراع ضد إسرائيل في حين يشتد أوار التجاذب والخصام مع إيران؟
المصدر: صحيفة السفير اللبنانية