في ذكرى سقوط بغداد نعيد التأكيد على ايماننا بنظرية “المؤامرة”.. ولماذا “لا” ونحن الضحايا؟.. ولا نحتاج لرواية بريمر او زلماي خليل زادة لمعرفة الخبايا.. وهذه هي روايتنا المختلفة والموثقة …بقلم عبد الباري عطوان
في كتابة الجديد “المبعوث.. من كابل الى البيت الابيض.. رحلتي في عالم مضطرب” يكشف زلمان خليل زادة مستشار الامن القومي في ادارة الرئيس جورج بوش الابن، وسفير بلاده في العراق وافغانستان، العديد من اسرار مهامه “القذرة” في الشرق الاوسط، وابرزها التمهيد لغزو بغداد واحتلالها الذي تصادف ذكراه الـ13 اليوم، وهي ذكرى مؤلمة حتما للكثير من العراقيين الشرفاء والعرب، بالنظر الى ما آلت اليه احوال العراق والامة العربية، في الوقت الراهن من تدهور على الصعد كافة.
يقول زلمان خليل زادة انه “تيقن من وجود خطة للتدخل العسكري في العراق للاطاحة بنظام صدام حسين بمجرد تعيينه مبعوثا لامريكا لدى المعارضة العراقية في الخارج حيث كانت مهمته توحيدها وتشكيل حكومة بديلة بعد اسقاط النظام”.
ما قاله السيد زاده ليس سرا، وانما حقيقة يعرفها، كل او معظم، الذين تواجدوا في لندن في العامين اللذين سبقا الغزو، حيث جرى تأسيس صحف ومجلات ومحطات تلفزيونية واذاعات، وتأطير المعارضين في تجمعات ومؤتمرات ومظلات سياسية، من كل الوان الطيف، و”العمم”، والمذاهب، والتوجهات، وضخ مئات الملايين من الدولارات لشراء الذمم، وتجنيد من يمكن تجنيده.
كان نجوم المرحلة زلمان زادة نفسه، والسفير الآخر ريتشارد دوني، والدكتورين احمد الجلبي واياد علاوي، والسيد محمد بحر العلوم، وعدد من القوميين العرب، واعضاء في الحزب الشيوعي، وشخصيات كردية مثل السيد هوشار زيباري، وعربية “سنية” مثل الشريف علي بن الحسين، وعدنان الباجهجي، والقائمة تطول، والنغمة المشتركة على لسان الجميع كانت “اطاحة الطاغية”، واقامة “عراق جديد” يكرس التعددية الحزبية، والعدالة الاجتماعية واجتثاث الفساد، والتأسيس لديمقراطية حقيقية بمساعدة الجنرال بول بريمير والسيد زادة، ودعم حكومات خليجية وعربية مشهورة “بنظمها الديمقراطية واحترامها لقيم حقوق الانسان واقامة الحكم الرشيد”.
***
لا نريد ان نتحدث عن “عراق اليوم” الذي لم يعد “جديدا”، فلا فائدة من التكرار، ولكن عن تجربة شخصية تؤكد ما قاله السيد زادة، ونضيف عليه، عندما دعيت لالقاء محاضرة في كلية الحقوق في جامعة هامبورغ في اب (اغسطس) عام 2003، اي بعد سقوط بغداد بأربعة اشهر تقريبا، وكان “خصمي” فيها ريتشارد بيرل، وكيل وزارة الدفاع الامريكية (البنتاغون) الذي كان يُعرف في حينها بلقب “امير الظلام” للعبه الدور الاكبر مع بول وولفوفيتش، وديك تشيني (نائب الرئيس)، ودونالد رامسفيلد (وزير الدفاع)، في التخطيط والتنفيذ للغزو حتى قبل تفجيرات الحادي عشر من سبتمبر التي اتخذت كأحد الذرائع لاقناع الرأي العام الامريكي بجدواه.
جادلت “الخصم الامريكي” في عدم شرعية الحرب، واستنادها الى اكاذيب اسلحة الدمار الشامل، ورددت ما يقوله معظم العرب والغربيين، بأنها كانت حربا لتحقيق ثلاث اهداف، وهي حل الجيش العراقي خدمة لاسرائيل، واستيلاء الشركات الامريكية والاوروبية على نفط العراق وتقسيمه، على اسس طائفية وعرقية، وجميع هذه الاهداف تحققت بالكامل، ونص المحاضرة موجود في ارشيف الجامعة الالمانية لمن يريد الاطلاع عليه.
موضوعي في هذه العجالة ليس ما دار في المحاضرة، وانما بعدها، بعيدا عن الميكروفونات واجهزة التسجيل، حيث اكد لي بيرل ان الادارة الامريكية كانت تعرف مسبقا ان صدام حسين لم يعد يملك اسلحة دمار شامل لانها جرى تدميرها من قبل فرق تفتيش الامم المتحدة، ولكنها وجدت نفسها امام خيارين: الاول ان تنتظر حتى يقدم رئيس المفتشين الدوليين هانز بليكيس تقريره الى مجلس الامن الذي يؤكد هذه الحقيقة، مما يعني حتمية رفع الحصار عن العراق كليا لانتفاء اسبابه، وتحوله، اي صدام، الى بطل عربي، وعودته بعد خمس سنوات لبناء قوته العسكرية النووية والكيماوية مجددا لانه يملك العلماء والخبرة، والابحاث التي تؤهله لتحقيق ذلك، الامر الذي يشكل خطرا كبيرا على امريكا وحلفائها (اسرائيل)، ولمنع تحقبق هذا الخيار، والكلام لبيرل، كان لا بد من تبني الخيار الثاني، وهو الغزو العسكري، واكد انه كانت هناك مدرستان داخل الادارة الامريكية: واحدة تطالب بغزو سريع يؤدي الى خطف صدام حسين، وخمسين من رجاله وقتلهم، والثانية تفضل احتلال العراق، وتفكيك نظامه ومؤسساته العسكرية والامنية، واعدام الرئيس العراقي وخمسين شخصية من اركان نظامه، بعد ادانتهم قضائيا، وانه، اي بيرل، كان من انصار المدرسة الاولى لانه يؤمن ان اي قوة احتلال مصيرها الهزيمة في نهاية المطاف مهما اوتيت من قوة وجبروت.
الامر المؤكد ان حقائق كثير وخطيرة جدا لم يتم الكشف عنها، سواء تلك التي تتعلق بغزو الكويت عام 1990، او حرب احتلال العراق عام 2003، والادوار التي لعبتها حكومات وشخصيات عربية وعراقية، في ظل عملية تعتيم متعمدة، فتقرير لجنة الورد تشيلكوت حول دول بريطانيا ورئيس وزرائها توني بلير، شريك بوش، لم يصدر حتى الآن رغم انه جاهز للنشر منذ عام تقريبا.
***
يتهموننا كعرب بأننا من المؤمنين حتى الهوس بنظرية “المؤامرة”، ولكن كيف نكون غير ذلك ونحن الذين اكتوينا، بل احترقنا، بنيران المؤامرات الامريكية والغربية ضدنا على مدى اكثر من مئة عام من الاذلال والاهانات والحروب ونهب الثروات؟ والمصيبة ان بعضنا يلعب دورا رئيسيا كأداة في تنفيذها، وسواء من هم في السلطة او على هوامشها.
معظم الحروب والتدخلات العسكرية الاجنبية التي تتم حاليا في منطقتنا، وتدفع بنا الى حروب طائفية وعرقية، وتحول معظم بلداننا الى دول وشعوب فاشلة، ربما ما كان لها ان تتم، او تنجح لو ظل العراق قويا موحدا مهابا، ولهذا بدأت المؤامرات الغربية به وشعبه وجيشه وقيادته مبكرا للوصول الى النتائج الحالية، او معظمها، مع تنبؤنا ان ما نراه حاليا ربما يكون قمة جبل الجليد، والسيناريوهات المقبلة قد تكون مرعبة.
يوم سقوط بغداد هو يوم سقوط امة، وسقوط مرحلة، عنوانها الكرامة الوطنية، وامتلاك اسباب القوة، وبناء مشروع عربي يحقق التوازن الاستراتيجي مع المشاريع الاقليمية والاستعمارية الغربية الاخرى.
نعم كانت هناك اخطاء وتجاوزات، ولكن كانت هناك دول وجيوش وهيبة، انه يوم حزين ومغرق في الالم، ولا نبالغ اذا قلنا انه ربما يفوق في معانيه ونتائجه وتداعياته يوم سقوط غرناطة.
لم يتعلم الإنسان أنه في الإمكان الوصول إلى اتفاق من دون إشعال حرب في سبيل الوصول إلى السلام، يسخر هواة الدماء والجثث من غاندي ومانديلا. آلة الحرب تدرّ مالاً وأوسمة وجاهاً. ويذهب الملايين إلى النسيان، كما هي عادة البشر منذ الأزل...