الدم السوري الرخيص .. بانتظار حلب… بقلم سامي كليب
ما يحدث من مجازر في حلب وصمة عار على جبين الإنسانية جمعاء. لكن وصمات العار ليس لها مكانٌ عادة في حسابات الدول وصراعات الأمم. لا يهم إن قتل 10 أو 100 أو 1000 من الأبرياء والأطفال والنساء والشيوخ. لا يهم ان تُباد أحياء وتستعيد القلعة حشرجة ابي فراس الحمداني. لا يهم أن تنوء الحضارة تحت وطأة القصف والقتال. هذه تفاصيل عابرة على طاولة الصراعات والصفقات والتفاوض بين واشنطن وموسكو، ومن خلالها بين حلفاء كل طرف.
في حلب أقدم المدن المأهولة في العالم، في حلب التي تعاقب عليها الاموريون والآراميون والاشوريون والسريان والفرس والهيلينيون والرومان والبيزنطيون والعباسيون والعثمانيون وكل من جاء بعدهم، وفي حلب التاريخ والألواح المسمارية، تُستخدم اليوم أقدم وأحدث الأسلحة وأكثرها دموية وفتكاً بالحضارة والبشر والتاريخ والحجر. وفي حلب عاصمة الثقافة الإسلامية في الوطن العربي (عام 2006)، ينوء الإسلام تحت وطأة وجور من يرفع لواءه للذبح باسمه. وتختلط الصواريخ مع البراميل وجرار الغاز. فيموت الطفل وعلى وجهه سؤال، وتموت الأم وفي عينيها دماء طفلها قبل أن تنطفئا.
كل هذا لا يهم. ففي السياسة والأمن، حلب مهمة لتركيا، ومهمة للسعودية، ومهمة لإيران، ومهمة للجيش السوري ومهمة للمسلحين والمعارضة ومهمة للمكفّرين والإلغائيين والظلاميين، ومهمة لروسيا ومهمة لأميركا والأطلسي…. على تخومها ينهزم مشروع ويقوم آخر، بعدما هزمت كل المشاريع ناس حلب وتاريخ حلب وقلاع وحجارة وثقافة ومصانع ورونق وإسلام ومسيحية حلب.
ولأنها كذلك فإن المنتظر يشي بالكثير من الدماء قبل أن ينتصر طرف على الآخر، أو قبل أن يقرر الجميع تقاسم الخسائر.
ما هو المنتظر؟
لم يكن أحد مقتنعاً أصلاً بمفاوضات جنيف. هي حبوب اسبيرين لمرض سرطان متفشٍ في الجسد السوري المتناثر أشلاء. لكن جنيف كانت مهمة لباراك أوباما كي يودع البيت الأبيض بأقل خسائر ممكنة ويتحمل فكرة أن بشار الأسد باق وهو راحل قبله. وجنيف كانت مهمة لروسيا لكي تتولى الجزء الأكبر من الملف السوري وتتجنب الانزلاق أكثر والاستنزاف أكثر. أما الأطراف الأخرى فليس لها أي مصلحة في مفاوضات جنيف.
تقتضي الصراحة القول، ان الدولة السورية الحالية بقيادة الرئيس الأسد، لم ولن تعترف بالمعارضة التي تفاوضها في جنيف إلا بالشكل. هي مضطرة للجلوس في جوارها في فنادق جنيف، فقط لكي تسهل عمل الحليف الروسي (الذي اختار بنفسه تاريخ وقف القتال وفرضه على الإيراني والسوري).
تقتضي الصراحة القول كذلك، بأن المعارضة المعروضة على أسواق الدول، بحيث تأخذ السعودية منها شيئا وتركيا شيئا ومصر وقطر وموسكو وأميركا وفرنسا شيئا، لم تقدم في خلال السنوات الخمس المنصرمة أي مشروع جدي بديل. لم تقدم سوى الخدمة تلو الأخرى للنظام. ولم تبعث أملا في نفوس من يريد التغيير. بات أصغر فصيل مسلح وتكفيري يمون على الأرض أكثر من المعارضة مجتمعة.
الدولة تعتقد أنها قادرة على كسر شوكة الجميع مع حلفائها عسكريا وبعدها تقرر شكل الحكومة والبرلمان والصلاحيات، وبعض المعارضات تعتقد أنها لا تزال قادرة على إسقاط الأسد بالقوة أو بالدعم الدولي…
أما الدول الغربية الداعمة للمعارضة، فهي لم تشأ يوماً انتصارها، وانما أرادت أن تطول الحرب أكبر فترة ممكنة، لكي تستكمل تدمير سوريا.
حلب هي الفيصل
توحي الاستعدادات الهائلة التي قامت بها الأطراف الحليفة للجيش السوري من قوات إيرانية و «حزب الله» وعراقيين وأفغان وغيرهم، والمدعومة بالطائرات والسلاح الجديد والدقيق من روسيا، بأن هذه الأطراف تستعد لمعركة كسر عظم في المرحلة المقبلة، حين يأتي الضوء الأخضر من روسيا.
وتوحي شراسة القتال من قبل المسلحين المدعومين من السعودية وتركيا وربما الأطلسي واولئك الذين تلفظهم الحضارة في بلادهم فيأتون ليتفننوا بقتل السوريين على أرض سوريا، بأن ثمة رغبة بكسر الاندفاعة التي كان الجيش السوري وحلفاؤه قد حققوها قبل وقف إطلاق النار.
لم يكن الروسي مستعجلا استئناف الحرب. هو يحاول منذ فترة جذب دول خليجية وجماعات سنية والكرد الى جانبه (قمة مع قطر، اتصالات مكثفة مع السعودية قد تسفر عن زيارة رفيعة لموسكو بالرغم من ان الرياض لم ترد بعد على دعوة وجهتها القيادة الروسية للملك، استقبال لرئيس الحكومة اللبناني السابق سعد الحريري، احتضان للجزائر بعد قرارات القمة الخليجية المغربية بشأن الصحراء، تنسيق دقيق مع الأردن، تكثيف للعلاقة مع القيادة المصرية …. الخ).
لكن الوضع بات مُلحاً الآن. تشعر موسكو وحلفاؤها بأن ثمة فخاً كان يراد نصبه لهم. يبدو وفق معلومات دقيقة أن الهدف الغربي والخليجي كان تحرير الموصل ورمي كل الإرهابيين في المناطق السورية المحاذية. هكذا يجد الروسي نفسه متورطا في حرب تقارب أتون أفغانستان بالنسبة للسوفيات.
تغيرت الآن الاستراتيجيات. ربما سنشهد قريبا تطورات عسكرية لافتة في حلب وريفها. الأمر صعب ومعقد ويتطلب الكثير من الخسائر البشرية (وهي بالمناسبة كانت كبيرة في الآونة الأخيرة من كل الأطراف). لعل اللقاءات الإيرانية الروسية السورية هذه الأيام تحضر لشيء ما… خصوصا إذا ما فشل التفاوض نهائيا قبل رحيل أوباما.
والى الاستعدادات العسكرية الهائلة، تسعى موسكو لتغيير طبيعة المفاوضين السوريين. تريد تخفيف الحضور التركي والتقليل من الاحتكار السعودي. سنشهد في الأسابيع المقبلة ضغطا باتجاه إشراك الأطراف الأخرى، خصوصا تلك المنضوية تحت لواء موسكو والقاهرة والكرد…
بانتظار ذلك، فإن حلب التي يقال ان اسمها يعود الى القرن الثالث قبل الميلاد، والتي عرفت كل ويلات التاريخ بما في ذلك هولاكو والمغول، مرشحة للنزف أكثر، لأن الدم السوري فيها تماما كما في كل سوريا والدول العربية ودول العالم الثالث يصبح رخيصا وبخسا في صراعات الدول وصفقات الغرف السوداء.
في حلب يتقرر مصير تحويل خطوط التماس العسكرية الى خطوط تقسيم سياسي، أو الى انتصار محور على الآخر… أما الإنسانية فهي مهزومة شر هزيمة في مدينة التاريخ والحضارة. لو كان أبو فراس الحمداني على قيد الحياة لربما قال من القلعة الجريحة: «ناحت بقربي حضارة» وليس حمامة.