عدوى التعصب الديني… بقلم عبد الحسين شعبان..
هل التعصّب الديني ينتقل بالعدوى أم ثمّة ردود فعل وبيئة تساعد على تفقيس بيضه؟ فما أن يبدأ في مكانٍ ما وضدّ مجموعةٍ ما، إلاّ ويجد ردود فعل تنمو في تربة خصبة اجتماعياً واقتصادياً وثقافياً، سواءً على المستويين الداخلي أو الخارجي. وتشير بعض الإحصاءات إلى أن 70% من سكان العالم، أي ما يقارب ستة مليارات من البشر، يعيشون في دول تفرض قيوداً صارمة على الحرّية الدينية، سواء كانت رسمية أو عبر مشاعر عداء ضد أتباع الديانات الأخرى.وخلال العقود الأربعة الماضية شهد العالم موجة شديدة من التعصّب الدّيني مترافقة مع عنف وإرهاب وهدر صارخ لحقوق الإنسان، سواء اتّخذ شكل حروب أو نزاعات مسلّحة دوليّة أو أهليّة، وعلى نحو مباشر أو غير مباشر.لقد تجاوز التعصّب الديني حدود البلدان وأصبح في زمن العولمة عابراً للقارات، وظاهرة “فوق قومية” تستطيع الزوغان من القوانين والأنظمة المرعية، وخير مثال على ذلك نموذج “داعش” الأكثر تعصّباً وعولمة ووحشية على الصعيد الدولي، بعد تنظيم القاعدة، فتراه وبكل سهولة ينتقل من المشرق العربي إلى المغرب العربي، فبعد احتلال ثلث أراضي كل من العراق وسوريا، وفرض عليها نظاماً يعود إلى القرون الوسطى، ظهر وهو يضرب في سيناء وفي ليبيا وتونس وغيرها.وإذا كان الغرب مستودع الحضارة البشرية وما أنجزته من علوم وتكنولوجيا وعمران وجمال وآداب وفنون، ولا سيّما في القرنين ونيّف الماضيين، فإنه ليس بريئاً من لوثة التعصّب الذي يتّخذ أشكالاً مختلفة، تارة الحفاظ على الهويّة، وأخرى يتم توظيفه عنصرياً، إضافة إلى كراهية الأجانب، ولا سيّما العرب والمسلمين، وقد حاول مؤتمر ديربن ضد العنصرية الذي انعقد في العام 2001 أن يعالج موضوع التعصّب والكراهية للأجانب بما فيه التعصّب الديني، خصوصاً وأنّ فايروساته أصاب شعوباً عديدة.وقد حاول بعض فقهاء القانون الدولي والمختصّين بحقوق الإنسان أن يؤطّروا الموضوع بالدعوة إلى إبرام اتفاقية دولية ملزمة تحظر التعصّب الديني، وذلك مع الأخذ بنظر الاعتبار بعض الإعلانات والقرارات التي اتّخذتها بعض المؤتمرات الدولية، والوثائق التي صدرت عنها، والعمل على تطويرها بما ينسجم مع المبادىء العامّة الآمرة في القانون الدولي، أي الملزمة في الحال وفي المستقبل، وكما تسمّى باللاتينية Jus Cogens .ولا ينتهك التعصّب الديني قواعد القانون الدولي فحسب، بل يمتدّ إلى انتهاك القانون الإنساني الدولي، والقانون الدولي لحقوق الإنسان، خصوصاً التي تتعلّق بحظر التمييز والحضّ على الكراهية والدعوة للعنف والعنصرية والإرهاب وانتهاك حرّية التعبير، وبقدر ما يكون التعصّب الديني انتهاكاً بذاته لمنظومة الحقوق والحرّيات، فهو في الوقت نفسه يعد انتهاكاً لحقوق أخرى.ولا يرتبط التعصّب الدّيني بدين محدّد على الرغم من أن بعض المحاولات المُغرضة في الغرب التي تحاول “شيطنة” الإسلام و”أبلسة” المسلمين، باعتبار تعاليم دينهم تشجّع على العنف والإرهاب، وأنهم مجبولون عليه، فهو غير محصور بمعتقد أو دين أو آيديولوجيا. إنّه يمكن أن يوجد لدى جميع أتباع الأديان والمعتقدات والآيديولوجيات، طالما تتوفّر بيئة مناسبة تساعد على نموّه، وإذا ما انتقلت الفكرة إلى الممارسة، فإنّها تتحوّل إلى عنف وإرهاب، سواءً كان فردياً أم جماعياً أم إرهاب دولة.إن خطر التعصّب الديني يزداد كلّما انتقل من ممارسة فردية قد تكون معزولة بسبب مرض نفسي أو لعلاقات عائلية غير طبيعية، أو لوضع اجتماعي، إلى ممارسة جماعية، أي أن تقوم مجموعة تحت عناوين مختلفة مثل الاستعلاء وادعاء الأفضليات وزعم امتلاك الحقيقة لممارسة عنفية أو إرهابية ضد مجموعة بشرية أخرى وانتهاك لحقوقها، وكان كارل ماركس على حق حين قال منذ وقت مبكّر: “إنّ شعباً يضطهد شعباً آخر لا يمكن أن يكون حراً”، لأن من يمارس الاضطهاد ضد الآخر، فإنه يمارسه ضد إنسانيته أيضاً، وبالتالي، فإن العنف الموجّه ضدّ الغير، هو عنف موجّه نحو الذات أيضاً، الأمر الذي يحتاج إلى معالجة سيسو ثقافية قانونية تربوية، بحيث يتم في الآن ذاته وقف العنف والاضطهاد ضد الآخر، وهو ما سيؤدي إلى وقف العنف الموجّه إلى الذات أيضاً.المتعصّبون لا يميّزون بين آخر وآخر، إنهم ضدّ كل آخر، بسبب من “أدلجتهم”، سواء كان هذا الآخر من أبناء البلد الواحد، أو أجنبياً، وكل آخر حسب وجهة النظر هذه هو غريب، وكل غريب مُريب، وأحياناً تمارس التعصّب دولة من خلال قوانين تبرّر لها احتلال أراضي الغير، بل وتقوم بطرد السكان الأصليين من بلادهم، وهو ما عملت عليه “إسرائيل” منذ تأسيسها في العام 1948 وهي تسعى اليوم لتتحوّل إلى “دولة يهودية نقية”.صدر الإعلان الدولي بشأن التعصّب الديني في العام 1981? ومنذ البداية تنازعه اتّجاهين: الأول: يريد تقييد حرّية التعبير لكي لا يتم التجاوز على الأديان، كما حصل في الصور الكاريكاتورية المسيئة للرسول محمد (ص)، والثاني: يريد إزالة أي قيود حتى لو أدّت إلى ازدراء الأديان أو الطّعن بها، على أساس احترام حرّية التّعبير كحق أساسي للإنسان، ولكن الانقسامات عادت مجدّداً بين قطبين الأول يمكن أن نطلق عليه: فهم عربي وإسلامي، والثاني فهم غربي وليبرالي، وهو ما كان محط نقاش في اليونسكو مؤخراً لتحديد العلاقة بين حرّية التعبير وبين احترام الآخر، الأمر الذي يحتاج إلى توازن بعيداً عن التقديس أو التدنيس، فلا تتم التضحية بحرّية التعبير بزعم الدفاع عن “المقدسات” التي هي ليست مقدسات لدى الآخر، ولا يتم الانفلات فيها لدرجة تحقير الأديان، باسمها وتحت مبرّراتها. ويعتبر تعيين مقرر خاص بالتعصّب الديني من مجلس حقوق الإنـــسان في العام 1986 إنجـــــازاً مهمّاً، وفي العام 2000 استبدلت التسمية إلى “المقرر الخاص لحرّية الدين والمعتقد..”، ولا زال الفقه الدولي، إضافة إلى القضاء الدولي، غير موحّد إزاء موضوع الموقف من التعصّب الديني، ويشوب بعض وجهات نظره الغموض والإبهام، وإذا كانت بعض القوانين الوطنية قد اتّجهت صوب بعض الإجراءات التنفيذية والآليات القانونية المعتمدة، وإن كان لٍكل بلد فهمه وتفسيره وقوانينه، فإن مثل هذا الأمر لا زال بحاجة إلى جهد دولي كبير للتوصل إلى ما هو مشترك، خصوصاً باعتماد آليات قانونية غير تقليدية، وقبول شكاوى وزيارات ميدانية، إضافة إلى جهود المقرر الخاص والخبراء المستقلين لتقييم أثر التعصّب الدّيني وانطباق بعض الممارسات على توصيفه، لأنه يشــــــــــــكّل تهديداً للسلم الأهلي والأمن الوطني، مثلما هو تهديد للسلم والأمن الدوليين. { باحث ومفكر عربي