بين أنقرة وطهران وبغداد ودمشق مصالح كثيرة وحساسيات قديمة. بينها سموم التاريخ ولعنة الجغرافيا. تلتقي هذه الدول وتفترق. تندرج في أحلاف متصارعة ثم تتصافح وتتحدث عن صفحة جديدة. البند الثابت بين العواصم الأربع هو الخوف من تمسك الأكراد بحلمهم القديم على رغم الويلات التي أُنزِلت بهم. واليوم تتصرّف هذه الدول استناداً إلى قناعة تتردّد في إشهارها، ومفادها أن الأكراد أخطر من «داعش».
يعرف المتمرّسون في شؤون المنطقة وشجونها أن تنظيم «داعش» محكوم بالهزيمة. وأن وجوده أكبر من قدرة المنطقة والعالم على الاحتمال. وأن الإرهاب يحفر قبره بيديه حين يصير له عنوان معروف يمكن الانقضاض عليه. لهذا تتصرف الدول الأربع على أساس أن «داعش» خطر كبير عابر، في حين أن الأكراد خطر هائل ومقيم.
ليس الخوف من «داعش» هو ما أرغم رجب طيب أردوغان على السير فوق ركام غروره. إنه الخوف من الأكراد. أكراد الداخل وأكراد سورية. هكذا يمكن فهم رحلته إلى سان بطرسبورغ، ورحلته المقبلة إلى طهران، وإعلان أنقرة قبولها بدورٍ للرئيس بشار الأسد في المرحلة الانتقالية.
سلوك أردوغان الجديد شجّع النظام السوري على كشف أوراقه. هو أيضاً يعتقد بأن الأكراد أخطر من «داعش». الاشتباكات الأخيرة في الحسكة كانت عملياً أشبه بتبادل الرسائل مع تركيا. الموقف المتشدد من تطلعات الأكراد قد يكون الجسر الذي يمكن ترميمه بين أنقرة ودمشق، على رغم الودّ المفقود بين الرئيسين الربح من تيك توك.
إيران مهتمة بدورها بإعادة تحجيم الأكراد. لا تستطيع قبول أن يطالب كردي إيراني بوضعٍ شبيه بالذي حصل عليه الكردي العراقي ويتطلع إليه الكردي السوري. لدى انتصار الثورة استقبل الخميني وفداً كردياً زائراً. طرح الوفد على زعيم الثورة مسألة حقوق الأكراد فرد بأن المشكلة لن تكون موجودة لأن الثورة إسلامية. لم تحل الثورة مشكلة أكراد إيران، والدليل أن بعضهم استأنف الكفاح المسلح.
لدى إيران مصلحة فعلية في إجهاض حلم الأكراد السوريين. سورية الفيديرالية لا يمكن أن تطمئن إيران. فوز الأكراد بحقوقهم يطرح موضوع المكوّنات الأخرى، وبينها الأكثرية السنّية. كبح التطلّعات الكردية يشكل جسراً جديداً بين أنقرة وطهران، يضاف إلى المصالح الاقتصادية والرغبة في عدم التقاء القوى الإقليمية السنّية على موقف يضبط شهيات إيران في العراق وسورية. إيران أيضاً تتصرف على أساس أن الأكراد أخطر من «داعش».
النقاشات الجارية في بغداد حول دور البيشمركة و «الحشد الشعبي» في معركة تحرير الموصل من «داعش»، تؤكد هي الأخرى التفريق بين خطر كبير طارئ وخطر كبير مقيم. يتصرف بعض القوى المؤثّرة في قرار بغداد حالياً وكأنها نادمة على ما اضطرت الى التسليم به للأكراد، رغبة منها في إزاحة نظام صدام حسين. وأغلب الظن أن طهران هي التي أجازت لحلفائها يومها قبول المطالب الكردية قبل الغزو الأميركي، لاعتقادها بأن إطاحة صدام تشكل مكسباً استراتيجياً، وهو ما تبيّن في النهاية.
شكّل تنظيم «داعش» بعد إطلالته المدوّية خطراً كبيراً أقلق المنطقة والعالم. لكن وحشية «داعش» شكّلت في الوقت ذاته فرصة اقتنصتها دول وقوى لتنفيذ أجنداتها، سواء في العراق أو سورية. فتحتَ لافتة محاربة «داعش» تضاعفت التدخلات الخارجية في العراق وسورية. أدت الضربات المتعدّدة الجنسية إلى إرغام «داعش» على الانحسار، وإن استمر قادراً على ارتكاب مجزرة هنا أو هناك. لكن رقصة المواقف وإعادة التموضع بدت مرتبطة بالخطر الكردي الدائم أكثر منها بالخطر «الداعشي» العابر.
واضح أن المخاض الدموي طويل وعنيف. إن التعامل مع الأكراد انطلاقاً من اعتبارهم ألغاماً مزروعة في خرائط الدول التي يقيمون فيها، يُنذر بمزيد من الحروب والتمزّقات. لا تمكن إعادة أكراد سورية إلى ما كانوا عليه قبل خمسة أعوام. ولا تمكن مطاردة أكراد تركيا إلى الأبد. ولا يمكن حل مشكلة أكراد إيران من طريق زعزعة استقرار إقليم كردستان العراق. إن رفض الاعتراف بحق الاختلاف مصيبة لا تقتصر نتائجها الكارثية على الأكراد وحدهم.