صرح مسؤول عسكري أمريكي بالأمس أن القوات التركية والكردية في شمال سوريا توصلت إلى اتفاق لوقف القتال فيما بينهما، وقد أكدت مصادر عسكرية كردية أيضًا هذه الأنباء غير الرسمية.
هذا المسؤول العسكري الأمريكي كان الكولونيل جون توماس، المتحدث باسم القيادة المركزية، الذي قال: “تسلمنا خلال الساعات الماضية تأكيدًا بأن الأطراف المشاركة في القتال ستوقف إطلاق النار، وتركز على تهديد تنظيم الدولة الإسلامية”، وأضاف أنه “اتفاق فضفاض لمدة يومين على الأقل، ونأمل في تماسكه”.
وقال توماس إن تركيا وقوات سوريا الديمقراطية، التي تشكل وحدات حماية الشعب الكردي العنصر الأكبر فيها، بدأت اتصالات مع الولايات المتحدة الأمريكية، واتصالات أخرى فيما بينهما “بهدف الحد من الأعمال العدائية”.
لكن قائدًا بالمعارضة السورية المسلحة وصف الهدنة بأنها ليست سوى “توقف مؤقت”، وأضاف أن العمليات العسكرية سوف تستأنف قريبًا.
الرد الرسمي التركي جاء على عكس التوقعات حيث نفت تركيا، اليوم الأربعاء، قبولها بإعلان وقف إطلاق النار مع المقاتلين الأكراد في شمال سوريا الذي صدر عن الولايات المتحدة.
جاء ذلك على لسان الوزير التركي للشؤون الأوروبية عمر جيليك الذي صرح لوكالة الأناضول الرسمية بقوله: أنا تركيا لا تقبل في أي ظرف تسوية أو وقفًا لإطلاق النار بينها وبين العناصر الكردية في شمال سوريا”، معتبرًا أن “الجمهورية التركية هي دولة شرعية وذات سيادة” ولا يمكن وضعها على قدم المساواة مع “منظمة إرهابية” بحسب وصفه.
قائد بالمعارضة السورية المسلحة وصف الهدنة بأنها ليست سوى “توقف مؤقت”، وأضاف أن العمليات العسكرية سوف تستأنف قريبًا
الدور المزدوج للولايات المتحدة في الشمال السوري
تحاول الولايات المتحدة جاهدة تجنب التصعيد في العنف بين القوات التركية، التي تقاتل في بلدة جرابلس الواقعة على الحدود السورية التركية، وقوات حماية الشعب الكردي في المنطقة نفسها، وذلك بعد أن أطلقت تركيا عملية “درع الفرات”.
حيث إن واشنطن علقت آمالا على هزيمة تنظيم الدولة الإسلامية “داعش” في سوريا، بالاعتماد الرئيسي على قوات سوريا الديمقراطية، وأنفقت الكثير من الأموال على تدريبها وتوفير المعدات لها.
أما تركيا شريك الولايات المتحدة في حلف الناتو فقد استولت قواتها على سلسلة من القرى الواقعة إلى الجنوب من جرابلس في الأيام القليلة الماضية بعد قتال خاضته ضد قوات تابعة لقوات سوريا الديمقراطية منذ انطلاق عملية درع الفرات.
وترى تركيا هدفها في شمال سوريا حاليًا هو طرد تنظيم الدولة الإسلامية “داعش”، وأيضًا التأكد من عدم توسيع المقاتلين الأكراد للأراضي التي يسيطرون عليها بالفعل على طول الحدود مع تركيا.
كما تعتبر تركيا أن الوحدات الكردية المقاتلة تحت راية قوات سوريا الديمقراطية هي امتداد لحزب العمال الكردستاني المحظور الذي يقاتل في جنوب شرق البلاد ذي الأغلبية الكردية منذ ثلاثة عقود من أجل الحصول على حكم ذاتي، لذا تعتبر التحركات الكردية الانفصالية على حدودها تهديدًا لأمنها القومي.
لذا يعد طلب الولايات المتحدة من مسلحي وحدات الحماية الكردية الانسحاب إلى المناطق الواقعة شرق الفرات، جاء في إطار سعي واشنطن لخلق توازن بين القوات الحليفة لها، والأخرى الحليفة لها ولتركيا العضو في حلف شمال الأطلسي (الناتو)، بعد أن خلقت الاشتباكات أزمة داخل القنوات الرسمية الأمريكية المشتبكة مع الوضع في سوريا.
واشنطن علقت آمالاً على هزيمة تنظيم الدولة الإسلامية “داعش” في سوريا، بالاعتماد الرئيسي على قوات سوريا الديمقراطية
وفي السياق ذاته، خرج وزير الدفاع الأمريكي، أشتون كارتر، في تصريح له الإثنين، ليقول إن بلاده “طلبت من تركيا التركيز على الحرب على تنظيم داعش شمالي سوريا، وعدم الاشتباك مع قوات سوريا الديمقراطية”.
هل كانت واشنطن على علم بدرع الفرات؟
يرى بعض المحللين أن أنقرة بدأت هذه العملية دون تنسيق كامل مع حليفتها الولايات المتحدة، وهو ما أغضب أطرافًا داخل الإدارة الأمريكية، والتي بدأت صياحها حول ضرورة التركيز على قتال تنظيم الدولة الإسلامية “داعش” فقط.
فوفقًا لما نقلته صحيفة وول ستريت جورنال فإن خطة سرية كانت في طور الإعداد تقضي بانضمام قوات خاصة أمريكية إلى العملية التركية قبل انطلاقها، إلا أن أنقرة باغتت الجميع بالتوغل داخل سوريا دون تنسيق كامل مع المسؤولين في واشنطن، وهو ما حدث على إثره ما كانت تخشاه أمريكا، إذ اندلعت الاشتباكات سريعًا بين القوات التركية ومقاتلي سوريا الديمقراطية الأكراد المدعومين من الولايات المتحدة الأمريكية.
وتنقل الصحيفة عن مسؤولين أمريكيين قولهم: إن قرار تركيا السريع قوّض جهودًا وراء الكواليس لإخلاء العناصر الكردية السورية المتنافسة من منطقة النزاع، وخلق تحديًا جديدًا شائكًا بالنسبة للولايات المتحدة، حيث يتصارع اثنان من أهم شركائها في الحملة بدلًا من قتال داعش.
فيما حاولت الولايات المتحدة أن تستخدم سلاحها الجوي للضغط على الطرفين، حيث حذرت تركيا بأنها لن توفر دعمًا جويًا لقواتها في حال اتجهت جنوبًا في عمق الأراضي السورية، وكذلك كانت الرسالة إلى الأكراد أن الدعم الجوي للولايات المتحدة سيتوقف لقواتهم المتجهة إلى شرق نهر الفرات.
وبعد أن كان ما كان من الأتراك دخلت الولايات المتحدة في صراع لتسوية الأمر بأسرع ما يمكن بين الحلفاء خاصة بعد نجاح القوات التركية في استعادة جرابلس من تنظيم الدولة الإسلامية “داعش” الذي انسحب مقاتلوه من المدينة الحدودية بسلاسة غير معهودة.
إلا أنه لا يزال هناك اصطدام بين جنبات الإدارة الأمريكية، وهو صراع قديم متجدد خاصة فيما يتعلق بسياسة “البنتاغون” في سوريا أمام سياسة الاستخبارات “سي آي أيه”، إذ إن وزارة الدفاع الأمريكية منحازة بوضوح إلى حليفها الكردي في الشمال السوري الذي لديه شرعية إنجاز أمام داعش، ولا يتوقع أن تتخلى عنه بسهولة قبيل عملية تحرير الرقة على الأقل.
أما “سي آي أيه” فلديه صلات بمجموعات من الفصائل المسلحة المعارضة السورية، ولا يُريد خسارتها أيضًا في هذه المعركة، لذا دعمت الاستخبارات الأمريكية فصائل الجيش الحر التي شاركت بجوار القوات التركية في معركة درع الفرات.
أنقرة بدأت هذه العملية دون تنسيق كامل مع حليفتها الولايات المتحدة، وهو ما أغضب أطرافًا داخل الإدارة الأمريكية، والتي بدأت صياحها حول ضرورة التركيز على قتال تنظيم الدولة الإسلامية “داعش” فقط.
أهداف تركيا من درع الفرات تستهدف حلفاء واشنطن
لم يخف الرئيس التركي رجب طيب أردوغان أهداف عملية “درع الفرات” بعدما أقر بأن العملية ستلاحق “الانفصاليين الأكراد” كما تستهدف “داعش” تمامًا، وهو ما يعني أن محاولات واشنطن التوفيقية ليست سوى ضغط على الجانب التركي لتعديل بنك أهدافه.
ولكن تمسك تركيا بإجهاض مخطط الأكراد في الشمال السوري الذي يستهدف السيطرة على الجانب الغربي من نهر الفرات، وذلك بالتواجد العسكري التركي الذي ربما لن ينتهي مع عملية “درع الفرات” ، وذلك لمنع محاولات ربط هذه المناطق وتوحيد رقعة جنوب الحدود التركية، وبذلك استجابت الولايات المتحدة لطلب تركيا بإجبار الأكراد على الانسحاب إلى شرقي نهر الفرات.
خاضت تركيا هذه المعركة التي اتضح أن واشنطن لم ترض عن تفاصيلها ولا مستوى التنسيق فيها، ببنك أهداف قوي وسقف طموحات عالٍ، لكن يُلاحظ مؤخرًا الانخفاض في ذلك بعد الضغط الأمريكي المتواصل، حتى إن تركيا أعادت طرح مسألة المنطقة الآمنة، لكن واشنطن تجاهلت هذا الأمر تمامًا، وأرادت أن تكون عملية “درع الفرات” دفاعية فحسب وغير مؤثرة على مجريات المشهد السوري، بما يضمن لتركيا أمن حدودها.
حيث تعلم واشنطن جيدًا أن داعش قد انسحبت من جرابلس قبل أسبوعين من العملية ولم يكن لها سوى تواجد ضئيل، وأن وحدات حماية الشعب الكردي كانت تستعد للتحرك شمالاً للاستيلاء عليها، لكن أنقرة استبقت هذه الخطوة بعملية درع الفرات، وجاء تحرك أنقرة للتأكيد على أن الهدف الحقيقي للعملية هو منع سيطرة وحدات حماية الشعب الكردية على شمال سوريا.
تركيا أعادت طرح مسألة المنطقة الآمنة، لكن واشنطن تجاهلت هذا الأمر تمامًا، وأرادت أن تكون عملية “درع الفرات” دفاعية فحسب
ويأتي هذا التوتر بين واشنطن وأنقرة ليضيف بندًا جديدًا من بنود الخلاف والتباعد بين الطرفين، خاصة بعد المحاولة الانقلابية الفاشلة الأخيرة في تركيا، التي شهدت هجومًا حادًا غير رسمي على الولايات المتحدة باعتبارها ضالعة في هذه المحاولة، أو مباركة لها على الأقل، وعلى الجانب الأمريكي بدأت تحليلات ومقالات تخرج تحذر من تركيا ما بعد الانقلاب الفاشل، ولعل أبرز ما جاء في هذا الصدد هو اعتبار مجلس العلاقات الخارجية الأمريكي تركيا بأنها “ليست حليفًا موثوقًا بعد الآن”.
ماذا بعد على الصعيد السوري العام؟
لا شك وأن الخطوة التركية في الشمال السوري لن تحدث تغيير جذري في المعادلة السورية، باستثناء التأثير على وضع المليشيات الكردية داخل هذه المعادلة بالتحجيم، أما على الصعيد السوري العام، فإن روسيا وإيران أكبر حلفاء نظام الأسد لم يعارضا هذه الخطوة التركية بما يعني أن ثمة تنسيق بين الأطراف، وقد كانت زيارة الرئيس التركي رجب طيب أردوغان إلى روسيا نقطة فارقة في هذا الصدد، وقد انعكس ذلك تمامًا على رد الفعل الباهت لنظام الأسد من عملية “درع الفرات”.
وفي نفس التوقيت التطورات الداخلية في سوريا والإقليمية المحيطة تُشير إلى بداية النهاية لأحد اللاعبين الرئيسيين في سوريا، وهو تنظيم الدولة الإسلامية “داعش”، وهو أحد الأسباب الرئيسية المدعاة للقوى الدولية والإقليمية للتدخل العسكري في المنطقة حاليًا، وبداية إرهاصات الاختفاء في هذا التوقيت، تعني أن ثمة تسوية قادمة في الملف السوري عقب الانتهاء من داعش.
يمكن قراءة ذلك بعد الإعلان عن مقتل أبي محمد العدناني أحد أبرز مؤسسي تنظيم الدولة بشكله الحالي، والناطق الرسمي باسمه، ومسؤول عملياته الخارجية، وبذلك يلحق العدناني بركب المقتولين من أبرز قيادات التنظيم على كافة المستويات العسكرية والشرعية والإعلامية، والذين لم يتبق منهم الكثيرون على قيد الحياة.
ويأتي هذا بالتزامن مع خسارة التنظيم لأراضيه وانحساره في كل من سوريا والعراق وليبيا، ما يشير إلى بدء أفول هذه الحالة التوسعية، وبداية الرجوع إلى الحرب المليشياوية التي لا تستهدف السيطرة على الأراضي، وهو ما يدق إنذار مرحلة ما بعد تحرير الأرض من “داعش”، ويطرح ذلك تساؤلات أيضًا عن مصير الثورة السورية في أي تسوية قادمة.
التطورات الداخلية في سوريا والإقليمية المحيطة تُشير إلى بداية النهاية لأحد اللاعبين الرئيسيين في سوريا، وهو تنظيم الدولة الإسلامية “داعش”
وعلى جانب النظام انطلقت سياسة الاتفاقات بين النظام والمناطق المحاصرة منذ عدة سنوات فبعد اتفاق داريا الأخير، يأتي التفاوض على معضمية الشام لتسليم المدينة للنظام مقابل إخراج مقاتلي المعارضة نحو ريف إدلب.
وكذلك توصل أهالي حي الوعر بمدينة حمص غرب سوريا إلى اتفاق مع قوات نظام بشار الأسد، يضمن شروطًا لإيقاف القصف على الحي المحاصر منذ أربع سنوات، وجاء الاتفاق بعد قبول الطرفين في تلك المنطقة هدنة لمدة 48 ساعة لإفساح المجال للتفاوض بين قوات النظام ولجنة ممثلة عن أهالي حي الوعر.
هذه السياسة التفاوضية الحالية تشير إلى اتباع النظام السوري لاستراتيجية إخلاء، تمهد لحدث ما قادم قد يكون قريبًا، إذا ما نظر إليه بجانب هذه التطورات بعين واحدة.