ليستِ الحِكَم والأمثال مجرّد تهويمات تشبه تهويمات الشعراء الجميلة. إنها قول سائر ومأثور، مختصر وموجز، ينطوي على عبرة مستخلصة من واقعة وحكمة مستقاة من تجربة حياة، ويُردَّد في مناسبة مشابهة.
عندما قالت العرب ” مَنْ أمِنَ العقاب أساء الأدب”، فإنما استنبطت حكمة من تجارب عدة متكررة وأطلقته مثلاً لمَنْ يعتبر، وما أقلّ مَن يعتبرون!
أمام الأنظار وفي وضح النهار اعتدى عضو في مجلس النواب، هو المدعو مشعان الجبوري، على فريق قناة “العراقية” الحكومية الذي كان يغطّي أحداث تحرير بلدة الشرقاط من داعش، بحسب ما صرّح به أعضاء الفريق ومدير إعلام محافظة صلاح الدين العقيد محمد الأسدي وآخرون شهدوا الواقعة، أفادوا أيضاً بأن السبب الكامن وراء الاعتداء هو أنَّ الجبوري أراد أن يفرض على الفريق التلفزيوني إجراء مقابلة معه.
قبل أن يُصبح عضواً في مجلس النواب من دون وجه حق ( نظام سانت ليغو الأعوج الذي يريد المجلس الآن إطاحته بتعديل قانون الانتخابات، هو ما مكّنه من احتلال مقعد برلماني رغم فشله في الانتخابات)، كان مشعان مطلوباً للعدالة بتهمة تتعلق بالفساد الإداري والمالي. في ذلك الوقت كان يستظلُّ بنظام بشار الأسد الذي سهّل له إنشاء وإدارة قنوات تلفزيونية فضائية كانت صوتاً لتنظيم القاعدة وفلول نظام صدام، يُحرّض على الإرهاب ويتغنّى بالعمليّات الإرهابية التي كان العراقيون يسقطون فيها بالعشرات يومياً (موقع يوتيب يحتوي على المئات من الأدلّة).
سياسيّو الإسلام السياسي المنافقون الذين كان مشعان يشتمهم على مدار الساعة في قنواته ويُعيِّرهم بالولاء لإيران وبوصفهم صفويين، مدّوا لمشعان سجّادة حمراء في مطار بغداد الدولي وأقاموا له الولائم ليكون مطيّة لهم في صراعهم مع بعضهم البعض من أجل السلطة والمال. تدخّلوا لتبرئته من التهم التي كانت قد صدرت فيها أحكام باتّة، ولم يتقدّم أحدٌ منهم إلى القضاء بدعوى التحريض على الإرهاب بحسب ما يحكم به قانون مكافحة الإرهاب، بل إنهم سهّلوا له الترشُّح في انتخابات 2014 واستصدروا له نقضاً قضائياً لقرار حرمانه من خوض الانتخابات ،لأنه خرق -على نحو سافر- نظام الانتخابات وقانونها بتطاوله على أحد المكوّنات الرئيسة في البلاد، الكرد.
ومنذ ثمانية أشهر أقرّ مشعان علناً بأنه وكلّ أعضاء مجلس النواب والحكومة فاسدون !: “الجميع فاسدون، من لابس العقال إلى لابس العمامة إلى الأفندي إلى صاحب البدلة الرسمية”، واعترف بأنه شخصيّاً قد ارتشى من أحد الفاسدين: “والله وبشرفي أخذتُ رشوة بعدّة ملايين من الدولارات لإغلاق ملف فساد ،لكنني أخذتُ الرشوة ولم أغلق الملفّ”!
أحدٌ في البرلمان أو الحكومة أو حتى في جهاز الادعاء العام، لم يحرّك قضيّة ضدّه ، كما لو أنّ الاعتراف ليس سيّد الأدلّة في دولة العراق!
بتاريخٍ حافلٍ بانتهاك القوانين وبتجارب متكررة من الإفلات من العقاب، كان من أسهل ما يكون على مشعان وأفراد حمايته الاعتداء على صحفيّي “العراقيّة”،فـ ” مَنْ أمِن العقاب أساء الأدب”، يسنده في ذلك عدم وجود قانون يحمي الصحفيين ويضمن أمنهم وسلامتهم ويحفظ كرامتهم، فقانون حقوق الصحفيين سيّئ الصيت الذي تحمّست له الحكومة السابقة وضغطت وساومت لتشريعة في العام 2011 إنما ضمن “حقوق” الحكومة والإجهزة الأمنية ضد الصحفيين وحريّة الصحافة.
بالطبع لا حقَّ على مشعان إن هو اعتدى على الصحفيين بدم بارد، فالحقّ كلّ الحقّ على الصحفيين الخانعين لقانون ينتهك حقوقهم وحريّتهم وكرامتهم، يستقوي به مشعان وأمثاله من سقط متاع نظامنا السياسيّ الفاسد.
شاهد أيضاً
جنرالات وأشقاء.. بقلم سمير عطا الله*
لم يتعلم الإنسان أنه في الإمكان الوصول إلى اتفاق من دون إشعال حرب في سبيل الوصول إلى السلام، يسخر هواة الدماء والجثث من غاندي ومانديلا. آلة الحرب تدرّ مالاً وأوسمة وجاهاً. ويذهب الملايين إلى النسيان، كما هي عادة البشر منذ الأزل...