أجرى المسؤولون الأتراك والإيرانيون عددًا من الزيارات الثنائية على مستوى رفيع في الآونة الأخيرة، ما يُظهر ازدياد التقارب بين البلدين بعد فترة شهدت خلافات جوهرية حول العراق وسوريا. فما هو سبب هذا التقارب وهل سيدوم؟
من “حزب العدالة والتنمية” إلى الربيع العربي
ازدهرت العلاقات التركية-الإيرانية خلال العقد الماضي من الزمن في ظل الحكومة التي رئسها “حزب العدالة والتنمية”. وفي حين اعتمدت الحكومات التركية السابقة القائمة على مبدأ العلمانية مواقف سلبية تجاه إيران، سعى “حزب العدالة والتنمية” ذو الجذور الإسلامية إلى توطيد العلاقة مع طهران بعد استلامه الحكم في العام 2002. وأعقب ذلك زيارات على مستوى رفيع إضافةً إلى اتفاقات تجارية، وبحلول العام 2010، كانت الولايات المتحدة تحثّ أنقرة على المساعدة في التوسّط لإبرام اتفاق نووي مُنيَ بالفشل مع إيران حمل اسم “اتفاق طهران”. وعندما وجدت واشنطن لاحقًا أن الاتفاق غير مرضٍ لها، صوّتت تركيا ضدّ الحلّ اللاحق برعاية الولايات المتحدة في مجلس الأمن الدولي التابع للأمم المتحدة الذي شدّد العقوبات المفروضة على إيران.
بيد أن العلاقات بين أنقرة وطهران بدأت تتدهور عندما اندلعت انتفاضات الربيع العربي خلال العام 2011. ووقف البلدان على طرفي نقيض حول الحرب الأهلية في سوريا بشكل خاص – حيث أقدمت تركيا على دعم المتمردين بينما تمسّكت إيران بتأييدها لنظام بشار الأسد، عميلها منذ وقت طويل في المنطقة. ونتيجةً لذلك، علقت عاصمتا الدولتين في حرب بالوكالة، فعمدت أنقرة إلى تسليح المتمردين وتوفير الملجأ لهم، فيما قامت طهران بتمويل جنود الأسد وإرسال قوات للمحاربة نيابةً عنه، في وقت أمطر فيه كل بلدٍ الآخر بوابل من الانتقادات العلنية اللاذعة بسبب موقفه من الحرب السورية.
وبرزت أيضًا خلافات حيال العراق حيث أثارت العلاقات الجيدة التي تجمع تركيا بـ “حكومة إقليم كردستان” غضب حكومة بغداد ذات الأغلبية الشيعية وحليفها في طهران. علاوةً على ذلك، اعترض العراق على التجاوزات التي ارتكبتها تركيا في المنطقة الشمالية ذات الأغلبية العربية السنّية من البلاد. وفي الآونة الأخيرة، طلبت بغداد – بدعم من إيران – من تركيا إخلاء قاعدة بعشيقة قرب الموصل حيث كان لتركيا وجود عسكري خلال السنوات القليلة الماضية.
التخفيف من حدّة التوترات
خلال الأسابيع القليلة الفائتة، أشارت أنقرة وطهران إلى أنهما تحاولان وضع خلافاتهما جانبًا. فقد سافر وزير الخارجية التركي مولود تشاويش أوغلو إلى طهران في 18 آب/أغسطس بعدما زار نظيره الإيراني محمد جواد ظريف أنقرة في 12 آب/أغسطس. ويبدو أن السبب الرئيسي خلف هذا التقارب هو سوريا.
ويُعتبر توغّل تركيا في الأراضي السورية يوم 24 آب/أغسطس – الذي حصل بمباركة ضمنية من جانب روسيا وبدعم عسكري أمريكي مباشر وإن كان محدودًا – خير دليل على تطوّر العلاقة بين البلدين. ويُظهر ذلك أن الحرب تتحوّل إلى عدة نزاعات صغيرة يمكن خلالها للخصوم على جبهة معينة (تركيا في مواجهة روسيا في حلب) التعاون على جبهة أخرى (جرابلس). كما يبيّن أن الجهات الفاعلة تستعد “لحقبة ما بعد” تنظيم “الدولة الإسلامية” وتُبدّل أولوياتها استنادًا إلى ذلك. فعلى سبيل المثال، لم تعُد تركيا تصبّ على ما يبدو كامل تركيزها على الإطاحة بالأسد. عوضًا عن ذلك، ومن خلال إبرام اتفاق سلام ضمني مع روسيا وبالتالي مع إيران بشكل غير صريح، تعمد أنقرة استباقيًا إلى السيطرة على مناطق كان ليستولي عليها لو لم تفعل “حزب الاتحاد الديمقراطي”، وهو الحزب الكردي الذي استحوذ على قسم كبير من المنطقة الحدودية الشمالية وسيكون أحد خصوم تركيا الرئيسيين في سوريا بعد دحر “الدولة الإسلامية”.
بالغعل، واصل الرئيس رجب طيب أردوغان وكبار المسؤولين في وزارة الخارجية التركية انتقاد الأسد علنًا منذ عملية التوغّل الشهر الفائت، ما أثار تساؤلات حول ما إذا كان بإمكان تركيا فعلًا التخلي عن سياستها الرامية إلى الإطاحة به. غير أن العاصمة التركية تُدرك واقع أن النظام الحالي – وربما حتى الأسد نفسه – سيصمد على الأرجح لبعض الوقت، لذا طلبت مؤخرًا من وكلائها في سوريا تركيز جهودهم بشكل أكبر على منع “حزب الاتحاد الديمقراطي” من إحراز أي تقدّم.
وباختصار، لا تبدو الحلحلة مع إيران تحوّلًا إستراتيجيًا، ويجب أيضًا عدم تفسيرها على أنها مؤشر بأن تركيا تعتزم الخروج من منظمة حلف شمال الأطلسي (“الناتو”) في المستقبل. وستبقى أنقرة متمسّكةً بموقفها المعارض لأهداف إيران الرئيسية في سوريا.
من جهتها، ترى طهران في الحلحلة فرصةً لاكتساب تأييد أنقرة وتقويض اعتراضات تركيا على بقاء نظام الأسد. وقد يكون القادة الإيرانيون طلبوا حتى من الأسد إصدار الأمر الذي قضى بقصف الجيش السوري مؤخرًا مواقع “حزب الاتحاد الديمقراطي” في الحسكة كوسيلة لاستمالة أنقرة.
على الصعيد الاقتصادي
قبل التعاون العسكري والدبلوماسي مؤخرًا، دفعت الضغوط الناتجة عن مواجهة خصمين نافذين في سوريا بتركيا إلى فتح آفاق التعاون على الصعيد الاقتصادي مع طهران. وساعد ذلك إيران على إيجاد متنفّس من العقوبات الدولية، وردّت طهران في المقابل بتوجيه دعوة إلى الشركات التركية لمزاولة أعمال في الجمهورية الإسلامية.
وكانت المساعي المبذولة الرامية إلى تعاون سوقيهما كبيرة على نحو خاص هذا العام. ففي 29 شباط/فبراير، عقدت طهران أول منتدى للأسواق الرأسمالية بين إيران وتركيا من أجل تسهيل الإدراج المزدوج للشركات في بورصة كل من البلدين. وفي 5 آذار/مارس، دعا رئيس الوزراء التركي آنذاك أحمد داوود أوغلو إلى إزالة العوائق التجارية البيروقراطية للاستفادة من العوامل الاقتصادية والجغرافية التكاملية بين البلدين، موضحًا أن هذا الأمر قد يساعد على زيادة قيمة التعاملات التجارية السنوية بواقع ثلاث مرات من 9 مليارات دولار إلى 30 مليارًا. وفي 9 نيسان/أبريل، وقّعت غرفتا التجارة الإيرانية والتركية ثلاث وثائق لتعزيز التعاون الاقتصادي والعلاقات المصرفية عقب جلسة “اللجنة الاقتصادية المشتركة” الخامسة والعشرين التي عُقدت في أنقرة.
كما من شأن تحسُّن العلاقات الاقتصادية مع إيران فتح مجالات وفرص مع بغداد. فعلى الرغم من علاقات تركيا المترسخة في “حكومة إقليم كردستان” المستقلة على نحو متزايد، تربطها علاقات أوثق مع الحكومة المركزية التي يمكن أن تعود صادراتها النفطية التي تتخطى ثلاثة ملايين برميل في اليوم بفائدة إضافية على الصعيد الدبلوماسي والطاقوي والتجاري.
هل من تقسيم ومخاطر مستقبلية؟
نظرًا إلى هذا المزيج من المصالح المشتركة والمتباعدة في آنٍ، من المرجّح أن تقرّر كل من تركيا وإيران تقسيم علاقاتهما على عدة جبهات. على سبيل المثال، في حين سيستمر خلافهما بشأن بعض جوانب السياسة حيال سوريا (مثل مستقبل الأسد ومعركة حلب)، ستعترضان على أي سيناريو قد ينطوي على تمتُّع أكراد سوريا بحكم ذاتي أو بالاستقلال. وعلى الصعيد الاقتصادي، ستواصل علاقاتهما ازدهارها. أما في العراق، قد تتوصلان إلى تسوية بشأن حكم سياسي مشترك في ما يتعلق بالأكراد، مع سيطرة أنقرة على واحد من الفصيلين المتنافسين الرئيسيين في “حكومة إقليم كردستان” (“الحزب الديمقراطي الكردستاني”) في حين تسيطر طهران على الآخر (“الاتحاد الوطني الكردستاني”).
مع ذلك، أظهر مسار العلاقات التركية-الروسية أن مقاربة تقسيم مماثلة تشوبها مخاطر محتملة. فلغاية أواخر العام الفائت، تمكّنت أنقرة وموسكو من تطوير روابط متينة على صعيد التجارة والطاقة حتى في ظل اختلافهما حول سوريا. بيد أنه في تشرين الثاني/نوفمبر، أسقطت تركيا طائرة روسية دخلت لفترة وجيزة مجالها الجوي، ما دفع بالكرملين إلى قطع كل هذه الروابط تقريبًا وحتى إلى فرض عقوبات ثنائية في كانون الثاني/يناير. وقد تبرز مشاكل مماثلة مع إيران في حال تصادُم جنود أو وكلاء البلدين عن طريق الخطأ في سوريا.
كما تنطوي المفاوضات المستمرة بشأن التوصّل إلى تسوية سلام في سوريا على تحديات أخرى. ففي حال إبرام اتفاق يضمن بقاء نظام الأسد، ستتمثّل ميول تركيا على المدى الطويل بعدم التقيّد بالكامل بشروطه. بدلًا من ذلك، قد تقدّم أنقرة دعمًا علنيًا للاتفاق بينما تواصل في الوقت نفسه تسليح المتمردين المناهضين للأسد، ما قد يثير بالتالي غضب طهران وموسكو. وسيصعب على أردوغان أن يوقف بالكامل دعم بلاده للمقاتلين من خارج تنظيم “الدولة الإسلامية” في سوريا محاولًا بالتزامن مساعدة الولايات المتحدة في حربها ضدّ التنظيم – ففي النهاية، يُعتبر أردوغان وغيره من نخبة “حزب العدالة والتنمية” من مناصري الإسلام السياسي ويعتقدون أن دعم المتمردين الإسلاميين هو المسار الصحيح.
ووفقًا لذلك، ما لم تُقنع واشنطن داعمي المعارضة السورية في السعودية وقطر بوقف الدعم المالي والإذعان بالكامل لاتفاق سلام، من المرجّح أن تواصل تركيا تزويد مجموعات المتمردين ببعض الأسلحة والأموال، بما فيها الفصائل المتطرفة. ومن شأن السعودية أن تعارض أي اتفاق أمريكي-روسي حول سوريا، إذ قد تَعتبره بمثابة تسليم البلاد إلى سيطرة الإيرانيين/الشيعة. لكن حتى في حال وافقت الرياض على مثل هذا الاتفاق، من المرجّح أن ترفضه بعض أقسام النخبة السعودية غير المنظمة وتستمر في مساعدة المتمردين، لا سيما عبر تركيا. وعلى المدى الطويل، يبدو أن هذا الأمر يطرح التهديد الأكبر للروابط التركية-الإيرانية في إطار أي سيناريو تقسيم.
الخاتمة
على الرغم من حذر تركيا من الإيرانيين وأهدافهم الإقليمية، ترغب أيضًا في بناء علاقة فعلية، بسبب الحاجة إلى التعاون الاقتصادي، لا سيما على صعيد الطاقة. وكان أردوغان دعا أثناء حديثه خلال الجمعية العامة للأمم المتحدة في وقت سابق من هذا الشهر، إلى تأمين ملاذٍ آمن شمالي سوريا يمتد على 5 آلاف كيلومتر مربع تقريبًا – أي أكبر بكثير من الأراضي الحدودية التي تناهز مساحتها ألف كيلومتر مربع والخاضعة حاليًا لسيطرة تركيا ووكلائها من المتمردين. ويشير هذا الأمر إلى أن أنقرة ستكون الراعي الرئيسي للمعارضة من غير “الدولة الإسلامية” في الشمال من الآن وصاعدًا. ربما تكون إيران وروسيا على استعداد للسماح بإقامة مثل هذه المنطقة، لكن ذلك سيُعتبر تنازلًا كبيرًا عن تعهّد الأسد باستعادة كامل البلاد.
وعلى المدى القصير، تتوقّف استدامة الروابط المتجدّدة بين تركيا وإيران على مدى تمكّنهما من تجنُّب سيناريو مماثل لحادثة إسقاط الطائرة الروسية في تشرين الثاني/نوفمبر. كما ستتوقّف على ما إذا كانت أنقرة قادرة على الوقوف في وجه الضغوط السعودية لتعزيز الدعم إلى الجهاديين المناهضين للأسد.
سونر چاغاپتاي هو مدير برنامج الأبحاث التركية في معهد واشنطن.