دونالد ترامب يسابق ويسبق أكثر افتراضات الخيال سواداً. انقلابه، وآخر خطواته القرار التنفيذيّ في صدد الهجرة واللجوء، يستبطن الحرب الدينيّة في إخلال صريح بالقيم والمعايير التي باتت تعادل التقدّم وتساوي العقل. أمّا الردّة التي يرعاها، بخليط من العُظام والخفّة والوضاعة، فلا تعبأ حتّى بالقانون، ناهيك عن الأعراف.
هذا الكلام وغيره قيلا مراراً، بأصوات كثيرة وبلغات شتّى، وهو ما ينبغي أن يقال دائماً إلى أن ينجلي الكابوس الترامبيّ عن صدر أميركا والعالم.
لكنّ الانتباه إلى مسألة أخرى واجب مُلحّ أيضاً. ذاك أنّ الحملة على المسلمين (والمكسيك والصين…) يواجهها تضامن جبّار معهم، تضامنٌ تعبّر عنه قوى شعبيّة وقيادات سياسيّة وثقافيّة في الولايات المتّحدة الأميركيّة وكندا وأوروبا الغربيّة. حتّى رئيسة الحكومة البريطانيّة تيريزا ماي، التي تطمح إلى أن تكون لترامب ما كانه توني بلير لجورج دبليو بوش، لم تستطع أن تبقى صامتة ومتفرّجة.
فهذا النكوص إلى الوراء، إلى أزمنة الحروب الدينيّة، ليس عمليّة سهلة أو بسيطة. إنّه يصطدم بالكثير من الأفكار والإنجازات والوقائع والمصالح التي نمت عقداً بعد عقد، والتي تعاند ترامب راهناً وسوف تعانده إلى أن يرحل.
وما تنمّ عنه الوجهة هذه، ضدّاً على ما يشتهيه رئيس أميركا، وما يشتهيه معه المتعصّبون والتكفيريّون الإسلاميّون، أنّ العالم، والغرب تحديداً، لا «يكرهان» الإسلام والمسلمين. فالمجتمع التعدّديّ الذي بني في الغرب، ويُبنى، إنّما يحضّ على التنوّع والاختلاف ويحتفل بهما، والقوانين طُوّعت، وتُطوَّع، لمواكبة هذا المستجدّ الكبير.
والحقيقة هذه تستحقّ أن نتمعّن فيها قليلاً، ليس فقط لأنّها تشحذ نضاليّة المسلمين ضدّ ترامب وقد تربطها بنضاليّة كونيّة عريضة، بل أيضاً لأنّها تحاصر النظرة الغاضبة إلى هذا الكون، وغير السعيدة به، التي ترقى إلى ما قبل ترامب بكثير. فالعالم الغربيّ ليس مجمعاً على معاداة الإسلام والمسلمين. هذا وهم محض وإن كان وهماً وظيفيّاً يروّج له ويفيد منه مقاولو الحروب الدينيّة و «الحضاريّة».
بهذا فإنّ المواقف الشعوريّة والردود والتشهير لا تُغني عن التدخّل والمبادرة الإيجابيّين، وعن طرح سؤال أساسيّ يتقدّمهما: ما هي مسؤوليّة العالم الإسلاميّ عن كبح الحرب الدينيّة في العالم، وكبح الترامبيّة بالتالي؟
غنيّ عن القول إنّ احتفال الغرب بالتعدّد ما كان لينشأ لولا إزاحة الدين عن صدر المواطنة والسياسة في ذاك الغرب، وهو ما تُعدّ الترامبيّة اليوم، ردّاً عليه، مثلما هي ردّ على كلّ تقدّم أُحرز في أزمنة سابقة.
لكنْ، وبالقياس نفسه، يُلاحظ أنّ العالم الإسلاميّ عموماً، والعالم العربيّ خصوصاً، لم يفعلا على هذا الصعيد ما يُذكر. فعلى رغم أكثر من عقد ونصف العقد على جريمة 11 أيلول (سبتمبر) لم نتقدّم خطوة على هذا الطريق. واقع الحال أنّ العكس هو ما حصل، بدليل ما نزل بالأقلّيّات الدينيّة في السنوات الماضية، ممّا يحاول ترامب اليوم استثماره بإعلان تعامله التفضيليّ للأقلّيّات المسيحيّة في العالم الإسلاميّ…
والحال أنّ المنطقة دخلت طوراً، لا تزال مقيمة فيه، هو أشبه بالحلقة الجهنّميّة: أنظمة الاستبداد تزرع أسباب التديين الشامل للحياة العامّة فتردّ المجتمعات المُستَبَدّ بها بإبداء كلّ الاستعداد لهذا التديين. أنظمة الاستبداد تقمع الأكثريّات فتنتقم الأخيرة من الأقلّيّات التي تنحاز، إلى تلك الأنظمة وتتوسّم الخلاص فيها.
وما لم يبدأ التصدّي للوجهة هذه، ستمتدّ رقعة الكذب والدجل وتتوسّع. هكذا يستطيع الرئيس الإيرانيّ روحاني، مثلاً لا حصراً، أن يتفاخر بأنّ «زمن الجدران قد ولّى» فيما هو يتربّع على جدار اسمه الجمهوريّة الدينيّة. أمّا المعجبون بأنظمة لا تقيّد السفر إلى الخارج فحسب، بل تقيّد تنقّل مواطنيها داخل بلدهم، فيستطيعون التباهي بأنّ أميركا «ظهرت على حقيقتها».