مع تحرير الجزء الأكبر من الموصل، وهو الجانب الأيسر، وانتقال المعارك إلى الجانب الغربي (الأيمن)، وصل تنظيم «داعش» إلى نهاية الطريق في العراق، والموصل ستعود إلى العراق، لكنها عودة محفوفة بالأخطار والمشاكل وتحتاج إلى معالجات علمية بعيدة الأمد. فبعد ثلاث سنوات من الحكم البدائي المبني على القسوة والتعسف والإجرام، يحتاج الأهالي إلى تعامل خاص لمساعدتهم على العودة إلى الحياة المدنية الطبيعية، ويحتاجون أيضاً إلى حلول عملية للمشاكل التي خلفها «داعش» أو تلك التي مكنته من التحكم بهم. كما يجب الاحتراس من الجماعات الإرهابية الأخرى التي ستنشط بعد «داعش».
التفكير السائد في مجتمعاتنا، حتى بين القضاة والمثقفين والأكاديميين ورجال الدين، يميل إلى إنزال العقوبات القاسية بالمعتدي، على افتراض أن العقوبة كلما كانت قاسية كانت أكثر ردعاً، لكن هذا الافتراض يناقض النتائج التي توصلت إليها دراسات علمية وتجارب إنسانية كثيرة، فالقسوة عادة ما تولد القسوة. وتفتقر مجتمعاتنا إلى دراسات اجتماعية واقتصادية معمقة تبحث في الأسباب التي تدفع البعض إلى ارتكاب الجرائم أو المخالفات المضرة بالمجتمع. وإن وجدت هذه الدراسات، فإنها تبقى في الحدود الأكاديمية، فالمجتمع، ومعه المؤسسات التعليمية والبحثية والأكاديمية، ما زال يتوقع من الفرد أن يتبع المألوف، فإن حاد عنه فإنه يستحق العقوبة. بعض النظريات الاجتماعية السائدة تضع اللوم كله على الفقر والحرمان، لكنّ هذين السببين غير كافيين لدفع الإنسان السوي إلى الجنوح، وهناك مجتمعات تعاني الفقر في شكل واسع بينما بقي مستوى الجريمة فيها منخفضاً، ما يعني أنهما ليسا دافعين أساسيين للجريمة. المجتمعات المستقرة تبقى سلمية حتى بوجود الفقر، بينما المجتمعات التي مرت بحروب وتعرضت لاضطرابات وقمع سياسي واجتماعي وشاهد أطفالها وشبانها فظائع ترتكب أمام أعينهم، يصبح فيها ارتكاب الجرائم سهلاً وبدوافع قد تبدو غير كافية أو مقنعة.
لقد تعرض المجتمع العراقي لأبشع أنواع الجرائم خلال نصف القرن المنصرم، سواء التي ارتكبها مسؤولون في الدولة أو إرهابيون يحاربون الدولة، وهذه الفظائع، بشقيها المادي والمعنوي، تركت تأثيرات مدمرة جعلت منظر العنف والدماء مألوفاً ما سهّل على الضعفاء ثقافياً ومعنوياً أن يرتكبوا الجرائم بسهولة خصوصاً مع وجود تبريرات دينية روجت لها التنظيمات الإرهابية والأحزاب الدينية الانتهازية. أما الفساد، الذي بدأ منذ فرض العقوبات الدولية على العراق عام 1991 وانتشر في شكل مخيف ومدمر بعد 2003، فعم كل مجالات الحياة، من تعاطي الرشى وفرض العمولات الباهظة على المشاريع إلى خلق الوظائف الوهمية في الجيش والشرطة إلى تعيين الأقارب والاتباع من دون أهلية أو كفاءة، إلى تنظيم الرحلات غير المبررة في الداخل والخارج.
وأثناء سيطرة الجماعات الإرهابية على العديد من مناطق العراق، تعرض السكان لشتى أشكال التعسف والأذى وسوء المعاملة، بما في ذلك القتل والاغتصاب والسبي والتهجير، كما حصل مع الإيزيديين والمسيحيين في الموصل، وهذه الجرائم لا بد أنها تركت جروحاً نفسية عميقة لدى السكان، وهي تحتاج إلى معالجات علمية على أيدي مختصّين في علوم الاجتماع والنفس والدين والأخلاق. وقبل ذلك، يحتاج السكان في شكل عاجل إلى الخدمات الأساسية والتعويض عن الأضرار المادية التي لحقت بهم.
من الضروري أن يضطلع المسيحيون والإيزيديون بإدارة شؤونهم بأنفسهم، وقد يتضمن ذلك تشكيل إقليم أو إقليمين، الأول في سهل نينوى والثاني في سنجار، كي يتمكنوا من حماية أنفسهم من الإرهابيين والمتشددين. يجب ألا تتكرر المأساة التي حلت بهم عام 2014 والتي تعتبر عاراً على البشرية جمعاء، لأنها لم تهبّ فوراً لإنقاذهم بل تُرك الإرهابيون العتاة طلقاء يقتلون الرجال ويغتصبون النساء أو يبيعوهن في الأسواق!
كما يجب أن تكون هناك معالجات قانونية ودينية واجتماعية عاجلة لفك الارتباط عند كثيرين بين الإسلام والعنف، فهناك الآن من يعتقد بأن ضرورات الدين تعني فرض الأحكام القاسية والآراء الفردية على الناس بالقوة، وهذه لا تقتصر على المناطق التي خضعت لسيطرة الجماعات الإرهابية، بل هناك الآن جماعات «سياسية» تهدد باستخدام العنف ضد النشاطات الثقافية والفنية، كما حصل في بابل مؤخراً عندما هددت إحدى الجماعات بضرب الحفلات الموسيقية بالصواريخ! بعض رجال الدين المتشددين يبثون آراءهم المتطرفة التي تدعو إلى القتل عبر اليوتيوب والتي تبرر العنف والقسوة دينياً ولا من رادع لهم أو معترض عليهم، لا من الحكومة ولا من المؤسسة الدينية التي يتجاوزها هؤلاء ويسيئون إليها. ومن بين هؤلاء المتشددين المدعو صباح شبر الذي دعا ضمن غرائب أقواله إلى «قتل المرتد حتى بعد توبته»! ومن المؤكد أن تعريف «المرتد» في فقه صباح شبر قد يشمل ملايين الناس. التحريض على العنف والكراهية جريمة تعاقب عليها القوانين في معظم دول العالم، وإن تُرِك هؤلاء يعبثون بالدين والمجتمع من دون رادع قانوني فعلى الجميع أن يشعروا بالخطر.
إن كانت الحكومة منشغلة حالياً بمحاربة الإرهاب فإن المؤسسة الدينية، خصوصاً مرجعية السيد السيستاني التي تحظى باحترام الجميع ولا يُعصى لها أمر، مطالبة بمنع المتشددين من التحريض على العنف باسم الدين. من الضروري أن يعرف المؤمنون أن الدعوة إلى الله تكون عبر «الحكمة والموعظة الحسنة»، وفق النص القرآني، ولا مجال فيها للقسر أو العنف. وبسبب اقتراب موعد الانتخابات المحلية، بدأنا نسمع مزايدات دينية غريبة من «سياسيين» محليين تنم عن غياب كامل للمسؤولية. مجلس محافظة كربلاء، مثلاً، أصدر أمراً بمنع دخول السافرات إلى المحافظة بأكملها وليس الأماكن المقدسة فقط! وقد جاء هذا القرار إثر زيارة النائب ميسون الدملوجي إلى كربلاء لافتتاح معرض ثقافي. سكوت المؤسسة الدنية عن مثل هذه الأوامر المخالفة للدستور والمبادئ العامة للدين، قد يفسره كثيرون بأنه موافقة، علماً أن مقربين من المرجعية الدينية أشاروا إلى أنها تعارض هذه القرارات، وترى أن المدن المقدسة يجب أن تبقى مفتوحة أمام الناس من جميع المذاهب والتوجهات.
المجتمع العراقي الذي يعاني حالياً من أزمات سياسية واقتصادية واجتماعية عدة، لا يتحمل المزيد من النزاعات والانقسامات والمزايدات، وهو في حاجة ماسة إلى حركة سياسية اجتماعية إصلاحية شاملة تعيد له فاعليته المفقودة.