لا يُزعجني صياح الديك بباب الفجر ، ولا نباح كلبٍ مبحوح ، ولا الجلبة التي يحدثها شابٌ تعيسٌ يبحث عن علبة ألمنيوم ببطن حاوية زبل ، ولا مواء قطةٍ ما زال هوى شباط يلعب في رأسها ، ولا خلع ضرس ولا رمد عين ولا طبل قلب ولا شحة رغيف ، ولا وجه طركاعة الثولة ولا عفطة تيس بباب الصباح ولا خطبة دجّال بحشد عميان دماغ . لست مهتمّاً بثرثرة سائق التاكسي ولا كمون جمال زهران بحلق درج الكلحة . لا ألطم على رأسي إنْ لم يقنص ريال مدريد كأس البهجة . ليس لديّ اعتراض على مشية جارتي البطة السمينة بثوب البكّيني .
لن أنتحر على منظر ذبابة وهي تسبح بفنجان قهوتي المرة . لن أزعل إذا سقطت بحضني قنبلة ذرية . لن أموت من القهر إذا ما أغلقت الحانات بيبانها . لن يقصر عمري إذا ما بقيت بعيداً عن سينما بابل ألف سنة ودَور العاشرة ليلاً . لن أتحسّر لو شفت بغداد في منامي وهي تقصّ شعرها الطويل وترميه بدجلة . لن أتلف إذا ما ضربتْ قلبي هزة قوتها تسع درجات على مقياس الفراق . لن يتخلخل بنيان حروفي ، حتى لو واصلتْ الدنيا شتلي خارج مائدتها الطيبة . لا أُكلّف صحبيَ إلّا وسعهم ، لكن ما يوجعني ويحطّم روحي ويسخّم أيامي القاسيات ، هم أصدقائي الأدباء الذينَ فضّلوا أثاثَ المعدةِ على أثاثِ الضمير ، حتى صارت كروشهم المتهاطلة ، قبوراً للحيوانات ، فأكلوا ناراً وشربوا صديداً أُجاجاً ، فلهم دينهم ولي ديني .
بمقدوري وحروفي أن أكون مثل جلّهم ، محايداً خانساً ساكتاً عن الحقِّ ، فاكتب شعراً منثوراً في شَعر حبيبتي ، وطلاسم يقرأها الفقراء فيزدادون فقراً وموتاً . سأرسمُ قطعة بائسةً تصيح :
أنينُ البواخرِ البعيدة .
تثاؤبُ منارة المَرسى .
حركةُ العمّالِ الزُرق .
حليبُ الذاكرة وناقوطها المُرّ .
رنينُ الأيام المخمَّرة .
قال ليَ الليلةَ عبد الرحمن الأبنودي :
« في ايديَّ المزامير ،
وفي قلبي المسامير
الدنيا غرّبتني وانا الشابّ الأمير «
يا عليّ
أما آنَ لهذا الحزن أنْ يَتَرَجَّل ؟