كانت كردستان العراق منطقة مستقلة منذ سنة 1992. وبرزت كشبه دولة بعد أن أنشأت الولايات المتحدة – مع المملكة المتحدة وفرنسا – منطقة الحظر الجوي في شمال العراق، التي أنهت اعتداءات صدام حسين الفتّاكة على الأكراد. ومنذ ذلك الوقت، سيطر حزبان كبيران على “حكومة إقليم كردستان”، هما “الحزب الديمقراطي الكردستاني” و”الاتحاد الوطني الكردستاني”. وقد أسس مصطفى البارزاني الحزب الأول في سنة 1946 فيما أسس جلال طالبان “الاتحاد الوطني الكردستاني” في سنة 1975 عندما انشقّ عن حزب البارزاني. ومع أن الحزبين حاربا النظام العراقي في الثمانينات، فقد حاربا أيضًا بعضهما بعضًا في منتصف التسعينات، قبل التوصل إلى تسوية سلمية لتقاسم السلطة.
انهيار المأسسة
أدى غياب القوة المؤسسية إلى انهيار الوحدة الداخلية لأراضي منطقة كردستان وقدرات صنع القرار. فكنتيجة للصراع الأهلي الكردي (1994-1998)، تتواجد إدارتان فعليتان داخل كردستان هما: “المنطقة الخضراء” (محافظة السليمانية) التي يسيطر عليها حزب “الاتحاد الوطني الكردستاني”، و”المنطقة الصفراء” (محافظتي إربيل ودهوك) التي يسيطر عليها “الحزب الديمقراطي الكردستاني”. ويمارس “الحزب الديمقراطي الكردستاني” سلطة محدودة على بعض القوى في منطقة “الاتحاد الوطني الكردستاني”؛ وكذلك بالنسبة إلى “الاتحاد الوطني الكردستاني” في مناطق “الحزب الديمقراطي الكردستاني”.
تصيغ السياسة والمصالح الشخصية وانعدام الثقة العلاقات الأمنية بين المجموعتين. وكشف رئيس وكالة “زانياري” (وحدة المعلومات في حزب “الاتحاد الوطني الكردستاني”) لاهور طالباني عن هذه الانقسامات علنًا، قائلًا إن وكالتيْ المعلومات التابعتيْن لكل من “الحزب الديمقراطي الكردستاني” و”الاتحاد الوطني الكردستاني” لا تلتقيان أبدًا. إلى ذلك، اتّهم طالباني “الحزب الديمقراطي الكردستاني” بتنفيذ غارات الحويجة من دون علمه، مع أن وكالة “باراستن” (وكالة المعلومات) التابعة “للحزب الديمقراطي الكردستاني” ووكالة “زانياري” التابعة “للاتحاد الوطني الكردستاني” تجتمعان رسميًا تحت مظلة “مجلس الأمن الكردستاني”، الذي أسسه البرلمان في سنة 2011. وقال طالباني: “نحن كوكالة “زانياري” نتمتع بعلاقة جيدة مع أكثر من ثلاثين بلدًا، ونتبادل المعلومات مع وكالات الاستخبارات في هذه البلدان، لكننا لا نتعاون مع وكالة “باراستن” التابعة ’ للحزب الديمقراطي الكردستاني‘أو نتشارك المعلومات معها”. وعلاوةً على ذلك، قال طالباني في مقابلةٍ مع مجلة “نيوزويك”: “في بعض الأوقات، تمتعنا بعلاقة عمل مع بغداد أفضل من علاقتنا مع نظرائنا في إربيل”.
كان ذلك واضحًا في سنة 2014، عندما حاصر تنظيم” داعش” المناطق الكردية في كل من سوريا والعراق. فبلغ انعدام الثقة حدًّا اتّهم فيه الطرفان بعضهما بعضًا بالتآمر. وعلى سبيل المثال، لام “الاتحاد الوطني الكردستاني” القوات الموالية “للحزب الديمقراطي الكردستاني” على الانسحاب من مدينة سنجار من دون قتال، وبالتالي تسهيل مجزرة المدنيين اليزيديين. كذلك، عندما هاجم مقاتلو “داعش” منطقة كركوك العراقية في تشرين الأول/أكتوبر 2016، اتهمت وسائل الإعلام التابعة “للاتحاد الوطني الكردستاني” بطريقة غير مباشرة قوات “الحزب الديمقراطي الكردستاني” بتسهيل دخول مقاتلي “داعش” إلى المدينة.
منذ سنة 1991، برزت عدة محاولات لتوحيد هذه القوات المناصرة في جيشٍ وطني كردي موحّد، لكن لم تنجح هذه المحاولات بما أن بعض الفرق فحسب من “البيشمركة” هي موحّدة.
وحتى الآن، تبقى هذه القوات مسيّسة إلى حد كبير. لكن رغم هذه الانقسامات الأمنية والعسكرية، تخطو منطقة كردستان العراق حاليًا باتجاه الاستقلال. ووضّح الرئيس مسعود البارزاني في عدة مناسبات أن كردستان تتمتع بحق الانفصال عن الدولة العراقية. وإذا حدث ذلك، ستكون الدولة الجديدة حتمًا بحاجة إلى جيشٍ واحد، كالدول الأخرى في العالَم. لكن هل يستطيع أكراد العراق أن يوحّدوا قواتهم العسكرية والأمنية في جيشٍ وطني واحد، إما قبل إعلان الاستقلال وإما بعده بوقتٍ وجيز؟
يعتقد بعض الكتّاب، على غرار بول إيدون، أن الجيش الوطني ليس شرطًا مسبقًا لقيام الدولة الكردية. فيعتبر أن القوات الكردية يمكن أن تتوحد بعد إعلان الدولة؛ ويُشير إلى حالة الدولة الإسرائيلية كمثال على توحيد المجموعات شبه العسكرية بعد الاستقلال. لكنّ هذه العوائق التي تردع اليوم القوات الكردية عن التوحد ستتواجد بالطبع حتى بعد إعلان الدولة الكردية. وذلك لأن القوات العسكرية والأمنية تنقسم بحدّة وبالتساوي تقريبًا بين “الحزب الديمقراطي الكردستاني” و”الاتحاد الوطني الكردستاني” لدرجة توافر دولتين فعليّتين تقريبًا في الوقت الراهن داخل المنطقة الكردية.
لن يقبل “الاتحاد الوطني الكردستاني” أو يرحّب يومًا بدولة كردية مستقلة إذا حكم “الحزب الديمقراطي الكردستاني” وحده هذه الدولة – وخاصّةً إذ ا تطلّب ذلك تجريد القوات الموالية “للاتحاد الوطني الكردستاني” بالكامل من نفوذها السياسي كجزءٍ من الجيش الوطني الناشئ حديثًا.
يسيطر “الحزب الديمقراطي الكردستاني” حاليًّا على منطقة كردستان على الصعيديْن السياسي والاقتصادي. لذا سيكون تأثير قادة “الاتحاد الوطني الكردستاني” على القوات الأمنية أخف حدةً إذا قبلوا عملية التجريد من النفوذ السياسي في وقت الاستقلال. إلى ذلك، يعتبر كل من “الحزب الديمقراطي الكردستاني” و”الاتحاد الوطني الكردستاني” أن عملية التجريد من النفوذ السياسي تهدّد بقاءهما: ففي حال غياب قوتهما العسكرية، لن يكونا قادريْن على الفوز في الانتخابات.
ربما لن تؤدي الخطوات الأخيرة لمعالجة الانشقاقات الداخلية في حزب “الاتحاد الوطني الكردستاني” إلا إلى زيادة حدة الخصومة. فمثلًا، وقّع “الاتحاد الوطني الكردستاني” تسويةً مع مجموعته المنشقّة “حركة التغيير” (كوران) في 17 أيار/مايو 2016. وفسّر “الحزب الديمقراطي الكردستاني” هذا الاتفاق في مراحله الأولى على أنه خطة عدائية لكسب النفوذ ضده، ورفَض الترحيب بالممثل المشترَك للحزبين.
حل مفاج
بناءً على التحليل السابق، يمكن تصوّر حل يعاكس التوقعات البديهية. فيجب أن تتألف الدولة الكردية المحتملة من منطقتين من ناحية العلاقات الأمنية والعسكرية: أي إربيل تحت سيطرة “الحزب الديمقراطي الكردستاني” والسليمانية تحت سيطرة “الاتحاد الوطني الكردستاني”. وهذا يعني أن العلاقات الأمنية والعسكرية بين منطقتي إربيل والسليمانية ستشبهان تقريبًا العلاقات العسكرية والأمنية الحالية بين حكومة بغداد المركزية وحكومة كردستان الإقليمية. فيسمح الدستور العراقي الدائم الموضوع في سنة 2005 لـ “حكومة إقليم كردستان” بتشكيل قوتها المحلية ويشرّع وجود “البيشمركة” الكردية، لكنّ بغداد لا تتدخل في هذه التشكيلات وعمليات التجنيد. بالإضافة إلى ذلك، إن قوات “حكومة إقليم كردستان” هي القوات الوحيدة المسؤولة التي تحمي كردستان، وتمنع القوات العراقية من العمل داخل نطاق “حكومة إقليم كردستان” – لكنها ما زالت تشكّل دستوريًّا جزءًا من الجيش الوطني العراقي.
لم تنشر الدولة العراقية قواتها في كردستان منذ سقوط نظام صدّام. وقد يشكّل هذا النموذج حلًّا ما إن يتم الإعلان رسميًّا عن الدولة الكردية. فستخضع القوات الموالية “للاتحاد الوطني الكردستاني” لسيطرة قادة “الاتحاد الوطني الكردستاني”، وستكون مسؤولة عن حماية أمن المنطقة الخضراء، لكنها ستنتمي أيضًا إلى الجيش الكردي الأشمل. ويمكن السماح قانونيًّا بهذا الترتيب في الدستور الكردي، تمامًا كما يمنح الدستور العراقي القوات الكردية وضعًا خاصًّا. ويجب أن تعكس العلاقات بين المنطقة الخضراء والمنطقة الصفراء العلاقات بين بغداد وإربيل، إنما بوجود استثناء واحد: فيجب عدم السماح للمنطقة الخضراء التابعة “للاتحاد الوطني الكردستاني” بالانفصال عن حكومة إربيل المركزية، من أجل الحفاظ على وحدة الدولة الحديثة النشوء؛ في حين أن الدستور العراقي الحالي ينظر في إمكانية الاستقلال الكردي.
لا بد من الإقرار أن لهذا السيناريو بعض الجوانب السلبية: وأهمها أن “الحزب الديمقراطي الكردستاني” و”الاتحاد الوطني الكردستاني” قد يستخدمان القوات المنفصلة كوسيلة لتحقيق مكاسب سياسية واقتصادية، كما هو الحال اليوم.
على الرغم من ذلك، قد يكون هذا السبيل عمليًّا نظرًا إلى الانقسام التاريخي والعدائية بين القوات الكردية، كما قد يزيد الاستقرار الداخلي في المنطقة. وذلك لأن كلًّا من “الحزب الديمقراطي الكردستاني” و”الاتحاد الوطني الكردستاني” سيبذل قصارى جهوده لحماية منطقته الخاصة، متخوّفًا من عواقب التعدي عليها.
( منتدى فكرة هو مبادرة لمعهد واشنطن لسياسة الشرق الأدنى. والآراء إلى يطرحها مساهمي المنتدى لا يقرها المعهد بالضرورة، ولا موظفيه ولا مجلس أدارته، ولا مجلس مستشاريه، وإنما تعبر فقط عن رأى صاحبها)