نستطيع القول، من دون أي تردد، أن المرتزقة يعيشون عصرهم الذهبي، فبعدما كانوا أفراداً تستقطبهم الجيوش الاستعمارية وتستخدمهم في حروبها القذرة، خصوصاً في أفريقيا، أصبحت لديهم شركات خاصة تدربهم على القتال، وتفاوض الحكومات نيابة عنهم، وتؤمن لهم أعلى الرواتب. وقدر عددهم في العراق في عهد جورج بوش الابن بأكثر من مئة ألف. وما زال كثيرون منهم يضطلعون بمهمات في بلاد الرافدين، مثل حماية السفارات والقواعد العسكرية والأفراد والمسؤولين. وكان الحاكم «المدني» بول بريمر أصدر قراراً عام 2004 منحهم الحصانة في مواجهة الإجراءات القانونية في بغداد. وأصبحت للشركات التي تستخدمهم «نقابة» تدافع عن مصالحم كان يديرها أندرو بيريارك.
أميركا تستخدم المرتزقة الذين لا هم لهم سوى الكسب المالي «للدفاع عن الحريات ونشر الديموقراطية»، في مفارقة تؤكد أن هدف هذه الحروب نهب الثروات وإذلال الشعوب. هدف لم يخفه الرئيس دونالد ترامب عندما انتقد الإدارة السابقة لأنها لم تضع يدها على نفط العراق في بداية احتلاله وتعهد أن يحصّل ما خسرته واشنطن من أموال لحماية الدول والأنظمة، أي أنه مستعد لتحويل الجيوش الأميركية إلى جماعات من المرتزقة لتكون في خدمة من يدفع أكثر.
لا تنتهي فضائح شركات المرتزقة في العراق، من عهد بوش الابن إلى عهد أوباما إلى ما مضى من عهد ترامب في البيت الأبيض. ومن تدمير الفلوجة على رؤوس سكانها انتقاماً لقتل «متعاقدين» في المدينة عام 2004 واستخدام الأسلحة المحرمة دولياً لإبادتهم، إلى مجزرة ساحة النسور التي ارتكبها مرتزقة شركة «بلاك ووتر» عام 2007، وفضائح سجن أبو غريب التي ما زالت علامة فارقة في أساليب التعذيب حفاظاً على حقوق الإنسان.
أما الفضائح الجديدة فارتكبتها شركة المرتزقة «ساليبورت» المكلفة حماية قاعدة بلد الجوية، وهي الأكبر في العراق، منها تنطلق طائرات «إف 16»، وفيها مخازن الأسلحة الأميركية ومركز التحكم والقيادة، وهي لا تقل عن فضائح مثيلاتها في بلاد الرافدين، منذ الغزو عام 2003 حتى الآن. مرتزقة الشركة التي تبلغ قيمة عقدها 700 مليون دولار ضالعون في عمليات تهريب تشمل كميات ضخمة من الكحول وسرقة «مواد» والتجارة بالجنس، ومخالفات كثيرة لم يستطع المحققون التأكد منها لأن الإدارة طردتهم ورحلتهم بسرعة إلى واشنطن، ومنعتهم من متابعة عملهم. لم يقل المحققون من يدفع مقابل خدمات هذه الشركة. لكن في عهد ترامب، وهو يطالب الجميع بدفع ثمن حمايتهم، من المنطقي القول أن بغداد تكفلت دفع هذا المبلغ، ومن المنطقي الاستنتاج أن بعض تجار الحرب العراقيين والأميركيين يستفيدون من هذه الصفقة، فالفساد مستشر في كل مفاصل الدولة. والحكومة العراقية لم تعلق على التحقيق كأن القاعدة الجوية ليست على أرضها.
في عهد ترامب طورت الإدارة الأميركية الفكرة، ففضلاً عن الاعتماد على الشركات الخاصة، قررت إدارته تشكيل خمسة ألوية عسكرية لتدريب مرتزقة محليين، خصوصاً في سورية والعراق وأفغانستان، معتمدة تجربة باراك أوباما في «القيادة من الخلف»، ودعم «الحلفاء المحليين»، مثلما حصل في العراق عندما شكل الجنرال بترايوس «الصحوات» من مقاتلي العشائر، وتم تدريبهم وتسليحهم لطرد تنظيم «القاعدة»، ومثلما يحصل الآن في سورية، حيث يدرب الأميركيون «القوات الديموقراطية» المكونة من الأكراد وبعض العرب، ويقودونها للسيطرة على الرقة، ويحضرونها لاستخدامها ضد النظام وتشكيل آخر.
الأميركيون يطورون مفهوم المرتزقة ويحدثونه، بناء على حقلي التجارب في العراق وسورية.