بلال وهاب
في خريف هذا العام، تعتزم «حكومة إقليم كردستان» إجراء استفتاء حول الاستقلال تقول إنه سيكون بمثابة إطلاق عملية للانفصال عن العراق. وعلى الرغم من هذا الإعلان الواضح عن النوايا، لن تشكل [نتائج عملية] التصويت قراراً بالانفصال. وفي الواقع، إذا تم التعامل معها بشكل صحيح فبإمكانها أن تؤجل أي خطوة حقيقية نحو الانفصال عن العراق، وتضع «حكومة إقليم كردستان» على مسار ديمقراطي مرة أخرى، وتُهدّئ المخاوف الإقليمية حول الأراضي المتنازع عليها وغيرها من القضايا. ومن شأن مشاركة الولايات المتحدة قبل موعد الاستفتاء وطوال فترة المفاوضات اللاحقة بين أربيل وبغداد أن يخفف أيضاً من المخاوف الإقليمية، الأمر الذي سيؤدي إلى ترحيب المسؤولين من الجانبين بهذا الدور.
السوابق الماضية
في بادئ الأمر، توجّه أكراد العراق إلى صناديق الاقتراع للاختيار بين إعلان الاستقلال والبقاء ضمن العراق في إطار استفتاء غير رسمي جرى في كانون الثاني/يناير 2005. وفي حين لم يسفر التصويت بالإجماع تقريباً عن أي خطوات انفصالية فعلية، إلّا أنّه منح المفاوضين الأكراد أيدٍ قوية في بغداد، استخدموها لتأمين حقوق وصلاحيات أصبحت محفوظة الآن في الدستور العراقي.
وفي الوقت الذي يضغط فيه رئيس «إقليم كردستان» مسعود بارزاني من أجل إجراء استفتاء رسمي في وقت لاحق من هذا العام، إلا أن الشؤون الداخلية الكردية هي بالتأكيد ليست على ما يرام. فقد أدّى خلاف طويل الأمد بشأن تمديد فترة رئاسته إلى مواجهة مع منافسيه، لا سيما “حركة التغيير” («كوران»)، ثاني أكبر تكتل في المجلس التشريعي لـ «حكومة الإقليم». وأدى هذا الجمود إلى إبقاء البرلمان مغلقاً منذ تشرين الأول/أكتوبر 2015. فضلاً عن ذلك، لا يزال الاقتصاد الكردي يعاني من الضغوط، مما يفاقم مشاعر السخط. وخلافاً للاستفتاء، قد لا تجري الانتخابات البرلمانية والرئاسية لـ «حكومة إقليم كردستان» في موعدها المحدد في خريف هذا العام. وفي الوقت نفسه، يستعد العراق لإجراء انتخابات وطنية مهمة في ربيع عام 2018، التي من شأنها أن تقرر، من جملة أمور أخرى، مصير العلاقات بين أربيل وبغداد.
الاستعداد لهزيمة تنظيم «الدولة الإسلامية»
على الرغم من هذه العقبات، إذا كان هناك وقت مثالي لجني ثمار الاستفتاء، فهو الآن. فسقوط خلافة تنظيم «الدولة الإسلامية» يلوح في الأفق، وقد نجحت قوات “البيشمركة” التابعة لـ «حكومة إقليم كردستان» في السيطرة على أراضٍ طالب بها الأكراد على مرّ التاريخ، كما أن رئيساً أمريكياً جديداً أصبح يشغل البيت الأبيض ويراه الأكراد أقل صلابة وتعنتاً فيما يتعلق بقدسية حدود العراق.
ويقيناً، تعثرت علاقات «حكومة إقليم كردستان» مع بغداد بسبب تفاقم الصراعات حول تقاسم السلطة والعائدات. كما يساور الأكراد القلق إزاء الدور السياسي المتنامي للميليشيات الشيعية، والضغط نحو فرض حكم الأغلبية في بغداد بدلاً من الحكم القائم على مبدأ التوافق السياسي، والعجز الملحوظ لرئيس الوزراء حيدر العبادي عن معالجة الشرخ بينهما. لكن علاقات أربيل مع الحكومة المركزية تشهد تحسّناً على أرض الواقع، بفضل التعاون العسكري في الموصل، واتفاقيات تقاسم النفط في منطقة كركوك المتنازع عليها، واستعداد «حكومة إقليم كردستان» لوضع فروع مصرفها المركزي تحت سيطرة بغداد. وبالنسبة إلى بارزاني، سيكون الاستفتاء بمثابة حل شامل لمشاكل «حكومة الإقليم» الأوسع نطاقاً: فالمساعي القومية نحو الاستقلال، حتى وإن كانت رمزية فقط في الوقت الراهن، ستحثّ الأكراد على تجاوز انحيازهم الحزبي، الأمر الذي من شأنه أن يعزز موقفهم أمام بغداد. فعلى سبيل المثال، حتى خطوة بسيطة مثل رفع العمل الكردي في كركوك خلال الشهر الماضي ساعدت على استثارة شعور الوحدة بين الأكراد، رغم أن مواصلة القيام بمثل هذه الإيماءات في الأراضي المتنازع عليها قد يسبّب توترات مع الجهات الفاعلة الأخرى، على النحو المبين أدناه.
إدراك محدودية الاستفتاء
على الرغم من أن التوصل إلى الصيغة النهائية للمبادرة المزمعة يبدو بعيد المنال، إلّا أنّه بإمكان للمرء أن يحدد أساساً ماهية الاستفتاء. ففي حين أن التصويت لصالح الاستقلال يُعتبر أمراً لا مفر منه، إلا أنه لن يؤدي إلى إعلان استقلال الأكراد فوراً، كما أوضح رئيس وزراء «حكومة إقليم كردستان» نيجيرفان بارزاني ومسؤولون آخرون. ويدرك الأكراد أنهم والمنطقة على حد سواء غير مستعدين لقبول دولة كردية جديدة. وعوضاً عن ذلك، سيمنح التصويت المفاوضين الأكراد تفويضاً عاماً لإعادة تقييم العلاقات مع بغداد، واتخاذ خطوة صغيرة أخرى نحو الحكم الذاتي، وإنهاء بعض الأمور حول الأراضي المتنازع عليها.
وفيما يتعلق بالنقطة الأخيرة، لا يزال من غير المؤكد ما إذا كانت الأراضي المتنازع عليها خارج الحدود الحالية لـ «حكومة إقليم كردستان» (أي في محافظات كركوك ونينوى وديالى) ستشارك في التصويت. فقد تطلب الحكومات المحلية في هذه المحافظات الانضمام إلى «حكومة الإقليم» في استفتاء مشترك أو منفصل. غير أنه من الواضح أن حصر التصويت بأراضي «حكومة إقليم كردستان» سيكون أقل إزعاجاً بكثير لبغداد وعواصم المنطقة الأخرى.
تجاوز الانقسامات الداخلية
لا يمكن لأي حزب كردي أن يقف ضد الاستفتاء، ويعتقد البعض أنه الطريق الوحيد الذي يتيح لـ «حكومة الإقليم» الاستعداد للتغييرات البنيوية التي يبدو أنها ستهزّ المنطقة. لكن آخرين يعتقدون أن موجة القومية الكردية هي مجرد ستار لنزع الشرعية عن المؤسسات الديمقراطية لـ «حكومة إقليم كردستان» وإقامة إرث شخصي لمسعود بارزاني. فهو و «الحزب الديمقراطي الكردستاني» الذي يترأسه من أقوى المؤيدين للاستفتاء، ويصران على إجرائه حتى من دون تفويض من البرلمان الخامل. ومن جهته، يرى «الحزب الديمقراطي الكردستاني» أن السعي إلى الاستقلال يتجاوز السلطة التشريعية والمشاكل السياسية والاقتصادية التي تعاني منها «حكومة إقليم كردستان».
ويوافق منافسو بارزاني على الهدف ولكن ليس على سير العملية. وتؤكد حركة «كوران» على أن تفويض إجراء الاستفتاء يجب أن يصدر عن البرلمان؛ ويجد «الاتحاد الوطني الكردستاني» نفسه بين مطرقة خوفه من النفوذ الشعبي لـ «كوران» وسندان رغبته في الحفاظ على العلاقات مع «الحزب الديمقراطي الكردستاني»؛ وتصرّ الأحزاب الإسلامية على إعادة تفعيل دور البرلمان دون جعل ذلك شرطاً مسبقاً للاستفتاء. وعلى نطاق أوسع، تخشى المعارضة أن تتمثل رغبة بارزاني في أن يحل الاستفتاء محل الانتخابات البرلمانية والرئاسية المزمع إجراؤها في تشرين الثاني/نوفمبر.
ومن أجل أخذ مساعيهم القائمة منذ فترة طويلة ببناء دولة لهم على محمل الجدّ، يحتاج الأكراد إلى المحافظة على التزامهم بالعملية الديمقراطية والاستثمار في مؤسسات الدولة. وبالتالي، لا ينبغي أن تكون المصالحة السياسية والاستفتاء عمليتين متعاقبتين أو حصريتين. بل على العكس من ذلك، من شأن ريادة مبادرة الاستفتاء بطريقة شاملة وقائمة على القانون أن تعزّز إرث بارزاني، سواء تقيّد بولايته المنتهية وتنحى كرئيس للإقليم أم لا.
عدم الارتياح الإقليمي
بالإضافة إلى تنظيم شؤونهم الداخلية، يقرّ الأكراد بأن الطريق إلى الاستقلال يمر بالضرورة عبر بغداد في نهاية المطاف. وعلى الرغم من أن إدارة ترامب قد عزّزت توقعاتهم عبر تعيين قادة عسكريين موالين لـ «حكومة إقليم كردستان» في مناصب رئيسية، إلّا أنّهم يدركون أن العراق والدول المجاورة ليسوا مستعدين بعد لإقامة دولة كردية. ويشكّل إبرام اتفاق آخر مع بغداد لمنح الأكراد المزيد من الحكم الذاتي هدفاً أكثر واقعية يمكنه تجنب الضغوط التي تمارسها تركيا وإيران والولايات المتحدة.
وفي هذا الصدد، إن استثناء الأراضي المتنازع عليها من الاستفتاء سيجعل الأمور أكثر قبولاً بالنسبة لبغداد. وكان رئيس الوزراء حيدر العبادي قد أعرب عن تعاطفه مع التطلعات الكردية، لكنه أشار في الوقت نفسه إلى أن التوقيت ليس مناسباً للتصويت على الاستقلال. وكرّر بعض القادة الشيعة موقف العبادي، في حين حذّر آخرون الأكراد من اتخاذ خطوات أحادية الجانب أو أخذ العراق رهينة في ظل تهديدات مستمرة بالانفصال. ورداً على ذلك، سارع القادة الأكراد إلى اعتماد نبرة تصالحية، مؤكدين لبغداد بأن الاستفتاء لن يكون إعلان استقلال وواعدين بإبقاء قنوات الحوار مفتوحة.
وخلال الفترة المقبلة، قد تبقى معارضة حيدر العبادي للخطوة الكردية خفيفة، نظراً إلى أن حملة إعادة انتخابه ستعتمد بشكل أكبر على دحر تنظيم «الدولة الإسلامية» وإعادة بناء القوات المسلحة العراقية من اعتمادها على الدعم الكردي. إلا أنه قد يُضطر إلى اعتماد موقف أكثر صرامة تجاه الأكراد إذا استغل خصومه ردود فعل ساخطة مرتبطة بالقومية العربية ضده.
وعلى الصعيد الإقليمي، تُعتبر طهران المعارض الرئيسي للانفصال، إذ تعتقد أن قيام دولة كردية مستقلة على حدودها قد يضعف العراق بقيادة الشيعة، ويؤجّج المعارضة الكردية في إيران، ويصبح مرتعاً للأنشطة الأمريكية والإسرائيلية ضدّ الجمهورية الإسلامية. غير أنه على غرار بغداد، قد تكون طهران أكثر تقبلاً لإجراء استفتاء يستثني الأراضي المتنازع عليها. ومن شأن مثل هذا الاستثناء أن يقلل أيضاً من أعذار الميليشيات الشيعية لاتخاذ إجراءات ضد «حكومة إقليم كردستان».
ومن جهة الشمال، تصاعدت مؤخراً حدة الخطابات التركية الرافضة للطموحات القومية الكردية، بما في ذلك الدعوات الصاخبة لإزالة العَلم الكردي في كركوك. غير أن الأكراد صاغوا هذه الكلمات القاسية ضمن سياق محدد، حيث أدركوا أن الرئيس رجب طيب أردوغان وغيره من القادة الأتراك اتخذوا هذا الموقف عموماً من أجل كسب الأصوات المناهضة للقومية الكردية خلال استفتائهم الدستوري في الشهر الماضي. وتتمتع أنقرة و «حكومة إقليم كردستان» بعلاقات وطيدة في مجالات الاقتصاد والطاقة والأمن تجعل حصول الأكراد على الحكم الذاتي أقل تهديداً. ومع ذلك، تُظهر الغارات الجوية التي شنتها تركيا في 25 نيسان/أبريل في سنجار – وهي بلدة تقع شمال العراق في قلب محافظة نينوى المتنازع عليها – احتمال استمرار التعقيدات خلال فصل الصيف.
اختبار سياسة “العراق الواحد”
من خلال ترشيد الاستفتاء الذي يخطط له الأكراد وتمييعه، بإمكانهم خدمة مصالحهم دون الإخلال بلا مبرر بمحاولة العراق الأوسع نطاقاً للاستقرار. وعلى نحو مماثل، بإمكان بارزاني تعزيز موقفه من خلال عدم استخدام الاستفتاء كبديل للانتخابات المزمعة في تشرين الثاني/نوفمبر، بل كفرصة لتفعيل دور البرلمان والالتزام بحوكمة جيدة وتنفيذ الإصلاحات التي تهدئ روع المواطنين في «حكومة إقليم كردستان». ومن شأن هذه العملية أن تحث أيضاً الأحزاب الكردية على التوصل إلى تسوية بينها، بينما تتيح لبغداد وأربيل كسب المزيد من الوقت للتفاوض بشأن علاقاتهما بعد دحر تنظيم «الدولة الإسلامية» وحول مصير المناطق المتنازع عليها.
وتتوافق هذه النتائج مع المصالح الأمريكية في العراق. وفي المقابل، قد يؤدي سوء إدارة التوقعات القومية المتزايدة في العراق وفي «حكومة إقليم كردستان» إلى نتائج عكسية. وبالتالي يجب على واشنطن أن تتعامل بحذر، وربما تحد نفسها على دور “الوسيط النزيه” الذي تحتاج إليه السياسة العراقية بشدة. وقد يعني ذلك تسهيل أي مفاوضات قد تسبق الاستفتاء الكردي أو تعقبه. ومن شأن مثل هذه المقاربة أن تشجع كل من أربيل وبغداد على الاستثمار في مؤسسات الدولة وتلافي التدخلات الإقليمية.
بلال وهاب هو زميل “سوريف” في معهد واشنطن. ريبوار كريم محمود هو أستاذ مساعد في “جامعة السليمانية” في “كردستان العراق”.