يعرف الساسة في كردستان العراق مدى الصعوبات التي قد تواجه سعيهم الى نيل الاستقلال/الانفصال عن العراق. لأن أكثرهم قد مر بتجارب وظروف لا تقل قسوة عما يمكن أن يحدث راهناً، أو أنهم ورثة ذاكرة أليمة في ذلك. على أن النخبة السياسيّة والثقافيّة والاجتماعيّة الكرديّة لا تملك كماليات ارتكاب الكثير من «الخطايا»، بما يزيد قسوة ما قد يواجهونه بالأساس. ويتراوح تأثير سلوكياتهم هذه بين الإضرار بهذه العمليّة والإطاحة بمسار الاستقلال هذا، ومعه الكثير من المنجزات التي حققها الشعب الكردي في العراق خلال ربع القرن الأخير.
تأتي مسألة دور الدولة العراقيّة، أو ما تبقى منها، على رأس تلك المطبات التي يخطئ الكرد في حسابها. فالهويّة السياسيّة والكيانيّة للدولة العراقيّة الراهنة لا تنطبق على ما كانت عليه في مراحل سابقة من تاريخ صراعها مع الحركة القوميّة الكرديّة. فالعراق لم يعد دولة مركزية بزعيمٍ سياسي تقليدي. والمعنى بنفسه، فالعراق لم يعد لاعباً، بل بات ملعباً. وفوق ذلك كياناً مُنهكاً اقتصادياً ومجتمعياً. وأية قراءة كردية تقليدية للعراق تفترض إمكانية القطيعة معه، ستكون أولى الخطايا.
ضمن هذا الإطار، ليس للكرد أن يهملوا كل العراق لمجرد رفض طرفٍ أو تيارٍ سياسي عراقي لعمليّة الاستفتاء والاستقلال، حتى لو كان ذلك الطرف الحكومة المركزيّة العراقيّة ذاتها. فدولة العراق اليوم بسلطاتها ومواثيقها وأدوارها هي محل شكٍ وسؤالٍ كبير بالنسبة للكثير من العراقيين، بالذات ملايين المهمّشين والمتضررين من ولاءات وتشرذم قوى الحكم المركزيّة العراقيّة بين الدول الإقليميّة. لذا من مصلحة الكرد التواصل مع طيف واسعٍ من العراقيين «غير المركزيين»، والقول بصوتٍ واضح إن شكل العراق الراهن يستجلب أزمات لا نهاية لها، وسيبقى كذلك مستقبلاً، ومن مصلحة الجميع إعادة تركيب هذا الكيان، حتى لو تطلب ذلك استقلال الكرد عنه، من دون أن يكون ذلك على حساب أحد.
يستطيع الكرد كسب الكثير من الأطراف العراقيّة، من شخصيات وأحزاب ومؤسسات مدنيّة وثقافيّة، شرط أن لا يتعاملوا مع العراق ككيان، ومع العرب كمجموعة عرقيّة، وكأنهم شخص أو قوة صماء. وهو أمر يتطلب أن يستمع القادة الكرد لكامل الطيف العراقي، لمصالحهم وتطلعاتهم ورؤيتهم في شأن هذا الموضوع، وأن يأخذوا كُل ذلك في حسابتهم الدقيقة.
ليس بعيداً من ذلك، ضرورة أن يدرك العقل السياسي الكردي أن دور العراق وموقفه من عملية الاستقلال الكرديّة أكثر فاعليّة مما يمكن أن تكون عليه أدوار القوى الإقليميّة، بالذات تركيا وإيران. ففيما لو سعت هاتان القوتان لممارسة أكبر درجات العرقلة لهذا المسعى الكردي، تحت يافطة الإضرار بأمنهما القومي وتحطيم التوازن الإقليمي، فإن العراق وحده قادر على منح مستوى معقول من الشرعية للكيان الكردي المُنفصل عنه. وبالتالي ينبغي رد تلك المزاعم الإقليمية، ودفع القوى والمؤسسات الدوليّة لأن تتعامل مع الكيان الحديث بإيجابيّة.
متن القابليّة الكرديّة لكسب ود وقبول العراق (أو حتى جزء منه) بهذه العمليّة، يكمن في عدم الاستعجال والإلحاح على نيل الاستقلال الآن، تحت ضغط الإحساس بـ «الضعف الراهن» للدولة المركزيّة العراقيّة، مقابل المناعة والثقة الكُردية. فالتحولات والمكاسب التي نالها الكرد خلال تاريخ صراعهم الطويل في الدولة العراقيّة، امتدت على عشرات السنوات، ولا ضير راهناً في أن تطول عملية التحول من الفيديراليّة المريحة الى الاستقلال المتوافق عليه عشرات السنوات الأخرى، على أن تصل إلى نتيجة ما في النهاية.
أخيراً، فإن هذين الإطارين التأسيسيين – عدم القطيعة والهدوء الاستراتيجي – يجب أن يدفعا الى تعاملٍ كردي بالغ العقلانيّة مع ثلاث قضايا تفصيليّة بينهم وبين العراق.
تتعلق الأولى بموضوع المناطق المُتنازع عليها، التي ستتحول إلى قضيّة شائكة، وربما مدمرة، للعلاقة بين الكيانين الجديدين، فيما لو لم تُحل بطريقة وديّة وعقلانيّة قبل تبلور الاستقلال في شكلٍ نهائي. وهي مسألة يجب أن تُحل من طرفٍ مع الدولة المركزيّة، ومن طرفٍ آخر مع السكان المحليين من غير الكرد في تلك المناطق.
على المنوال نفسه، فإن حقوق بقية المكونات من غير الكرد، وبالذات من العرب والتركمان، ضمن الكيان الجديد، يجب أن تكون واضحة المعالم منذ البدايّة. أي أن لا تظهر للكيان الجديد أي سمة مغالية في الروح القوميّة الكرديّة، السياسيّة والثقافيّة منها.
والتفصيل الأخير يتعلق بالامتيازات التي يجب أن تُمنح للعراق والعراقيين من غير الكُردستانيين فيما بعد، في ما خص شؤون الإقامة والتملك والتنقل والعيش في الكيان الجديد. فالاستقلال الكردي يجب أن لا يظهر وكأنه طلاق كراهيّة، بل مُجرد وداعٍ ودي.