أقلّ ما تتسبّب فيه الطبقة السياسية المتنفّذة في العراق من أذىً للعراقيين، أنها تضعهم في حيرة مستحكمة ممّا يجري .. مما يُشرّع من قوانين .. مما يُتّخذ من إجراءات، فكل شيء تقريباً يبدو خارج نطاق المنطق والعدل والإنصاف .. والوطنية.
آخر ابتكارات هذه الطبقة على هذا الصعيد، تشريع مجلس النواب الاسبوع الماضي قانوناً انتخابياً لمجالس المحافظات يعتمد صيغة لا مثيل لها في الدنيا من نظام يُعرف باسم مبتكره الفرنسي سانت ليغو. مجلس النواب اعتمد صيغة (1.9) للانتخابات المحلية بدلاً من صيغة (1) التي اعتمدت في الانتخابات السابقة.
ماذا تعني هذه الصيغة؟
هذا السؤال تلقيّته عبر الفيسبوك من صديقة، هي كاتبة مرموقة وعارفة في أمور السياسة والحياة فضلاً عن الثقافة وغيرها. تسألني الصديقة وتحثّني على توضيح الأمر لها ولسائر القراء في عمودي هذا. سأكذب عليها وعلى القراء إذا ما ادّعيت المعرفة التفصيلية التي تؤهلني للإجابة عن السؤال، لكنني بالعودة الى ما نُشر في السابق عن نظام سانت ليغو وجدتُ ان السيد ليغو في الأساس وضع نظامه لكسر احتكار الاحزاب الكبيرة للسلطة. الاحزاب الكبيرة تحتكر السلطة عن طريق النفوذ والمال، والسيد ليغو كان يدرك أن الديمقراطية الحقيقية لا تعني حكم الأغلبية فحسب، وإنما أيضا ضمان حقوق الأقلية، ومن هذه الحقوق تمثيلها في السلطة لتكون لها هي الأخرى كلمة في شؤون البلاد، فالأغلبية ليست ثابتة والأقلية كذلك، وقد تنعكس الآية في ظرف ما، فتُصبح الأقلية أغلبية حاكمة والأغلبية أقلية محكومة ولكن من دون نفي تمثيلها في النظام السياسي، كما تعمل الطبقة المتنفذة عندنا.
أكثر من هذا، إنني أشكُّ كثيراً في أن يكون كل أعضاء المجلس الذين صوّتوا على مواد القانون الاسبوع الماضي قد قرأوا مسودة القانون بتأنٍ يعكس الشعور بالمسؤولية والالتزام باليمين الدستورية، بل إن بعضهم ربما لم يقرأه في الأساس… هذا الحكم قائم على تجارب سابقة، فكثيراً ما قال نواب، عند سؤالهم أو معاتبتهم بخصوص تصويتهم على قوانين ليس فيها مصلحة للبلاد، إنهم لم يقرأوا المسودة، أو فاتت عليهم المادة المعينة، وإن الأمر في نهاية المطاف في أيدي رؤساء كتلهم .. يأتيهم الأمر بالتصويت يصوّتون، أو بعدم التصويت فلا يصوّتون.
الأغلبية الساحقة من أعضاء مجلس النواب جاءوا بطريقة غير سليمة، غير نزيهة، فلا قانون الانتخابات الذي جرت على وفقه الانتخابات البرلمانية في 2014 ، وقبلها أيضاً، كان مُنصفاً وعادلاً، ولا مفوضية الانتخابات كانت مستقلة ونزيهة، وهذا ما فضحه استجوابها في مجلس النواب في وقت سابق من هذا العام، ولا السلطة التي كانت قائمة يومئذ من النوع الذي يضمن انتخابات نزيهة.
كل الطرق في العراق كانت، على مدى الأربع عشرة سنة الماضية ولم تزل، تؤدي إلى الفساد الإداري والمالي والسياسي، وإلى “انتخاب” الفاسدين وتثبيت أقدام زعمائهم.
إقرار صيغة (1.9) هو ممّا يبقي على هذه الطرق سالكة.
شاهد أيضاً
جنرالات وأشقاء.. بقلم سمير عطا الله*
لم يتعلم الإنسان أنه في الإمكان الوصول إلى اتفاق من دون إشعال حرب في سبيل الوصول إلى السلام، يسخر هواة الدماء والجثث من غاندي ومانديلا. آلة الحرب تدرّ مالاً وأوسمة وجاهاً. ويذهب الملايين إلى النسيان، كما هي عادة البشر منذ الأزل...