بعد سقوط الرقة – عاصمة تنظيم «الدولة الإسلامية» – في النهاية، ستتجه كافة الأنظار نحو جنوب شرق سوريا وتحديداً مقاطعة دير الزور، حيث تلوح في الأفق منافسة بين المتمردين المدعومين من الولايات المتحدة وقوات النظام السوري، مع احتمال بقاء الأكراد خارج الساحة منذ البداية.
الشائعات والحقائق
في الأشهر الأخيرة، تقدّم الجيش السوري في صحراء تدمر ومقاطعة الرقة الجنوبية، وخلال الأسابيع المقبلة، سيركز أنظاره نحو رفع الحصار الذي يفرضه تنظيم «الدولة الإسلامية» على دير الزور، ليواصل مسيرته التي دامت سنوات لاسترداد المدينة مجدداً كوسيلة لاستعادة المقاطعة بأكملها. وعلى وجه الخصوص، إذا نجح الجيش السوري في الاستيلاء على مدينة دير الزور، فسيركز [عملياته] بعد ذلك على حقول “العمر” الغنية بالنفط، التي تشكل 50 في المائة من الإنتاج السوري، والتي تقع إلى الشمال من نهر الفرات بين مدينتي الميادين والبوكمال. وعلى الصعيدين المحلي والوطني، ستكون هذه الآبار حاسمة الأهمية في مساعدة الرئيس السوري بشار الأسد على تأمين الولاء من قبائل المنطقة. ومن المنطقي أن تتقدم قوات النظام إلى الحدود العراقية وتنضم إلى الميليشيات الشيعية في مكان ما في جبال سنجار الجنوبية. وبالتالي، لن تتمكن «قوّات سوريا الديمقراطية» الكردية بمعظمها والمتمردين العرب المدعومين من الولايات المتحدة من الوصول إلى منطقة وادي الفرات الأدنى بين دير الزور والبوكمال، كما حدث سابقاً في التنف في حزيران/يونيو 2017، عندما وصل الجيش السوري والميليشيات الشيعية من تدمر إلى الحدود العراقية.
غير أنه من الممكن أن تقوم «قوّات سوريا الديمقراطية» بشن هجوم محدود في مقاطعة دير الزور الشمالية. إلا أن النظام السوري وحلفائه سيعملون بحزم لمنع «قوّات سوريا الديمقراطية» من الوصول إلى حقول “العمر” النفطية، لأن مثل هذا التطور سيقطع الطريق بين مدينة دير الزور والحدود العراقية، مما يعقد خطط الإيرانيين لإنشاء ممرهم البري إلى البحر الأبيض المتوسط.
ويتعارض هذا السيناريو مع الشائعات التي تسري في واشنطن حول هجوم مستقبلي للمتمردين مدعوم من الولايات المتحدة في مقاطعة دير الزور. ووفقاً لهذه الشائعات، سيتقدّم المتمردون العرب و «قوّات سوريا الديمقراطية» على الضفاف الشمالية للفرات، نحو الميادين، ليعبروا بعدها النهر ويتقدّموا نحو البوكمال قبل الاستيلاء على منطقة الحدود العراقية. وبالتالي، سيقتصر دور الجيش السوري على استعادة مدينة دير الزور والمناطق المحيطة بها. ومن شأن مثل هذا التطور أن يسمح للولايات المتحدة بعرقلة الممر الإيراني المزمع والحفاظ على الضغط على نظام الأسد. أما على الجهة المقابلة من الحدود، فسيقضي الجيش العراقي، وليس الميليشيات الشيعية، على وجود تنظيم «الدولة الإسلامية». وبالتالي، ستصبح القبائل العربية السنّية على جانبي الحدود تحت حماية أمريكية، وينتفي مشروع الممر الإيراني تلقائياً. وحتى باستثناء الاعتبارات الجيوسياسية التي لم تتم مناقشتها هنا، من غير المرجح أن يتبلور هذا الوضع الوردي، كما يتضح من أدلة مختلفة على الأرض.
أولاً، لا يتخطى عدد المتمردين العرب المدعومين من الولايات المتحدة – وهم «جيش أسود الشرقية»، و«جيش مغاوير الثورة»، و«لواء تحرير دير الزور» الجديد – الألفي عنصر، وفقاً لأفضل التقديرات. ومن الواضح أن هذه القوة المشتركة لا يمكنها أن تهزم الآلاف من مقاتلي تنظيم «الدولة الإسلامية» الأكثر حنكة وتمرساً، وخاصة نظراً لافتقارهم المحتمل للدافع لمحاربة الجهاديين. ثانياً، منذ أكثر من عام، في 29 حزيران/ يونيو 2016، فشلت محاولة جوية نفذها المتمردون للسيطرة على البوكمال فشلاً ذريعاً عندما لم تنتفض القبائل المحلية خوفاً من تنظيم «الدولة الإسلامية». ثالثاً، في ربيع عام 2017، عندما كان المتمردون يحاولون التقدّم براً نحو البوكمال من التنف، أوقفهم هجوم مفاجئ شنته الميليشيات الشيعية من تدمر نحو الحدود. وقد أعرب القادة الأمريكيون عن رغبتهم في نقل المتمردين العرب إلى الشدادي حيث يمكن دمجهم في «قوّات سوريا الديمقراطية»، الأمر الذي يسمح بالتالي بشنّ هجوم في مقاطعة دير الزور من الشمال. ومع ذلك، فمن المرجح أن ينشق بعض الجنود عن الجيش السوري عوضاً عن السفر إلى الشدادي. رابعاً – وهذا ليس غير مهم – لا تريد قيادة «قوّات سوريا الديمقراطية» دعم هؤلاء المقاتلين العرب.
تعثر «قوّات سوريا الديمقراطية»
ترفض قيادة «قوّات سوريا الديمقراطية» الفعلية، أي «حزب الاتحاد الديمقراطي» – وهو فرع سوري لـ «حزب العمال الكردستاني» الذى مقره في تركيا، دعم هجوم يقوده «لواء تحرير دير الزور». وعوضاً عن ذلك، وافق قادة «قوّات سوريا الديمقراطية» على دعم «قوات الصناديد»، وهي ميليشيا يقودها رجل قبيلة “شمّر” الشيخ حميدي دهام الهادي، وهو حليف وثيق للأكراد. ومن دون تعاون «حزب الاتحاد الديمقراطي»، ستواجه أي قوة عربية مدعومة من الولايات المتحدة صعوبات للتصدي لـ تنظيم «الدولة الإسلامية» في هذه المنطقة. ولطالما انتهت استراتيجيات ماضية مماثلة بفشل ذريع، مما دفع بالولايات المتحدة إلى التخلي عن برامج تدريب المتمردين من أجل تركيز مواردها على «قوّات سوريا الديمقراطية».
ويمكن تفسير تردد «قوّات سوريا الديمقراطية» في مباركة تشكيل قوة مستقلة موالية للولايات المتحدة في شمال شرق سوريا بمخاوف من بروز منافس جديد في المستقبل بمجرد دحر تنظيم «الدولة الإسلامية». بالإضافة إلى ذلك، يريد «حزب الاتحاد الديمقراطي» أن يبقى الشريك الوحيد للولايات المتحدة في شمال شرق سوريا، لإخضاع القبائل العربية في هذه العملية. ويفسر هذا التحليل جزئياً نشر القوات الكردية منذ خريف 2016 لمهاجمة الرقة، وهي مدينة عربية لن يتمّ قط ضمّها إلى روج آفا، جيب الأكراد في سوريا. وعلى نحو مماثل، يدرك «حزب الاتحاد الديمقراطي» أن الولايات المتحدة تحمي روج آفا من أي اعتداء تركي، لكن فور تحرير الرقة، فإن الجماعة الكردية السورية ستصبح على ما يبدو حليفاً يمكن الاستغناء عنه بالنسبة لواشنطن. وهذا يطرح السؤال عما سيحدث بعد ذلك. وفي ظل هذا القدر من عدم اليقين، لدى «حزب الاتحاد الديمقراطي» مصلحة في إطالة معركة الرقة. ووفقاً لـ هفال جبار القيادي بـ «وحدات حماية الشعب» في الرقة، قد تستمر المعركة لأربعة أشهر إضافية. ومع ذلك، لا يوجد مجال متاح أمام شنّ هجوم كبير آخر في الوقت الراهن، مما يسمح للجيش السوري بالتحرك بهدوء نحو دير الزور.
الدور الرئيسي للقبائل العربية
وسط هذا المشهد، يكون ولاء قبائل المنطقة غير مستقر، وسوف تسعى إلى الفوز بمزايا مادية عند موافقتها على الانضمام إلى أي تحالف. وقد تضمنت الوسائل السابقة لنظام الأسد ممارسة مثل هذه السيطرة للحصول على المياه، وتوزيع الأراضي، والتهريب، ووظائف إدارية وفي صفوف الجيش. وفي المستقبل، من المرجح أن يتمّ تقاسم الموارد النفطية وسوف تطالب بعض القبائل بالمال من أجل حماية خطوط الأنابيب. وعلى وجه الخصوص، وفي أعقاب التدخل العسكري الروسي في أيلول/سبتمبر 2015، شعر بعض زعماء القبائل بتغيّر مجرى الأمور وعادوا إلى أحضان النظام. وفي هذا السياق، أقدم نواف البشير، شيخ قبيلة “البقارة”، على مثل هذه الخطوة بعد خمس سنوات من المنفى في إسطنبول.
وإلى جانب الفوائد المادية، فإن الانتقام قد يدفع بالقبائل أيضاً باتجاه النظام السوري، كما حصل مع “الشعيطات”. ففي عام 2014، تواجهت هذه القبيلة النافذة مع عشيرة أخرى – من قبيلة “العقيدات” التي تحالفت مع تنظيم «الدولة الإسلامية» – من أجل السيطرة على آبار النفط بالقرب من الميادين. وسعياً منه إلى استغلال هذا الصراع، أقدم تنظيم «الدولة الإسلامية»، في عام 2014، على ذبح ما لا يقل عن 700 فرد من “الشعيطات”، مستهدفاً إخضاع القبيلة وثنيها عن القيام بثورة قبلية بشكل عام. ومنذ ذلك الحين، لم تقف أي قبيلة في وجه تنظيم «الدولة الإسلامية»»، على الرغم من هزائمه الأخيرة، لأن التنظيم الإرهابي ما زال يملك الموارد اللازمة لارتكاب المجازر. وفي غضون ذلك، شكّلت “الشعيطات” ميليشيا «لواء صقور الفرات»، التي تقاتل مع الجيش السوري في مدينة دير الزور، وحول تدمر، وجنوب الرقة، ساعيةً بالتالي إلى استعادة الأراضي التي خسرتها ومعاقبة القبائل التي تعاونت مع تنظيم «الدولة الإسلامية» في مجزرة عام 2014.
مطالب من الحلفاء الأمريكيين المحليين
يشعر «حزب الاتحاد الديمقراطي» حالياً بأن الوجود الروسي في سوريا سيدوم أكثر من الوجود الأمريكي. وتعتقد الجماعة الكردية أيضاً أنه حين يوضع الغرب أمام خياريْ روج آفا وتركيا – الحليفة في “منظمة حلف شمال الأطلسي” – فسيختار هذه الأخيرة. ويُفسِّر ذلك سبب رؤية الأكراد السوريين للشراكة مع روسيا كأفضل طريقة للحفاظ على مكاسبهم الإقليمية على المدى البعيد. وبالتالي، فإن ولاء الحزب لحلفائه التكتيكيين في الغرب مشكوك فيه إلى حدّ كبير حالياً. ونتيجةً لذلك، هناك احتمال قائم لإبرام «حزب الاتحاد الديمقراطي» اتفاقاً سرياً، إذا لزم الأمر، مع النظام السوري وروسيا وإيران. وفي ظل هذا السيناريو، قد ترفض «قوّات سوريا الديمقراطية» مساعدة المتمردين العرب على احتلال مقاطعة دير الزور – مقابل اعتراف مزعوم بسلطتها على شمال سوريا – لأن مخاطر الانتقام ستكون عالية جداً. وفي آب/أغسطس 2016، على سبيل المثال، سمحت روسيا لتركيا بوقف التواصل [الامتداد] الكردي عبر الاستحواذ على بلدتي جرابلس والباب. واليوم، تواجه روج آفا تهديد تدخل عسكري تركي جديد في تل أبيض، الذي من شأنه أن يعرقل التواصل بين كوباني والقامشلي.
يُذكر أنه حين أوقفت الولايات المتحدة دعمها للمتمردين السوريين في وقت سابق من هذا الصيف، أظهرت سوء نية تجاه حلفائها المزعومين. والآن، سيتردد «حزب الاتحاد الديمقراطي» والوكلاء العرب في تأييد الاستراتيجية الأمريكية في شرق سوريا بكل إخلاص من دون وجود ضمانات جدية طويلة الأجل مثل البناء غير المحتمل لقاعدة عسكرية أمريكية دائمة ونشر عشرات الآلاف من الجنود على أرض الميدان.
*فابريس بالونش، هو أستاذ مشارك ومدير الأبحاث في “جامعة ليون 2″، وزميل زائر في معهد واشنطن.