وانا انظر الى صورة الكاتب الكبير ومعلم الدراما العراقية عادل كاظم وهو على فراش المرض ، تذكرت هذا الكاتب والفنان عندما كان اسمه ، ملء السمع والبصر، وايام كانت فيه تخوم دولته الإبداعية تمتد الى إلى كل أطياف والوان الفن العراقي ، فهو الكاتب المسرحي الاول الذي ابهرت اعمال جمهور المهرجانات العربية ، وهو المؤلف التلفزيوني الذي كانت اعماله مثل الذئب عيون المديتة تجعل شوارع بغداد مقفرة ، وهو الصحفي والممثل والشاعر وكاتب القصة القصيرة المبتسم دوماً ، كانت السياسة سببا في عشقه للادب والكتابة للمسرح ، يساري الهوى والفعل والكلمات .
كانت المرة الأولى التي اتعرف فيها على ” ابو تموز ” في نهاية السبعينيات ، كنت حينها في بداية مشواري الصحفي ، اعمل في مجلة الثقافة للراحل العظيم صلاح خالص ، يومها دخل عادل كاظم الى المجلة وهو يحمل بيده مظروفا كان يريد ان يسلمه للدكتور صلاح ، وبما انني كنت الوحيد المتواجد في المجلة في ذلك الوقت ، تسلمت المظروف دون ان اعرف من هو صاحبه و لم يبادر هو بتعريف نفسه لانه غادر بسرعة . بعد ذلك عرفت ان صاحب المظروف هو عادل كاظم صاحب المسرحية الشهيرة الطوفان ، والمسرحية التي منعت من العرض دائرة الفحم البغدادية ، وشعرت بالأسى لانني لم اتحدث معه او اتعرف عليه ، وانا الذي كنت اخطوا خطواتي الاولى في المسرح ، بعدها بايام وانا اقلب ببعض الاوراق رفعت نظري لاجد عادل كاظم يبتسم ، لتبدأ رحلة صداقة ومحبة ، لم تنقطع يوما الا بسبب ظروفه الصحية واصراره على العزلة والصمت .
كان صاحب المتنبي ومقامانت ابي الورد ولايزال واحدا من الذين فجروا المعطيات المتحكمة في حياتنا الثقافية في الستينيات والسبعينيات. ولأنه من جيل الرواد في المسرح العراقي اولئك الذين حلموا بتأسيس المسرح كجزء من تغيير المجتمع واعادة تشكيل الواقع ولأنه ابرز كتاب المسرح العراقي وعاش الى جانب ابراهيم جلال ومع اهل الخشبة التجربة الميدانية للمسرح من خلال تجربة الفرقة القومية للتمثيل التي اعطت للمؤلف وجوده المستقل والمبتكر المكمل لاختبارات المخرجين في اطلاق مسيرة المسرح الحديث والمعاصر في العراق. لقد جاءت مسرحية الطوفان وهي من اولى النصوص العراقية المكتوبة باللغة الفصحى وبرؤية مسرحية بعيدة عن الثرثرة ومتاهات الادب لتؤرخ ولادة مسرح عراقي حديث وبعد تقديم الطوفان اطلق عادل كاظم لنفسه العنان لتقدم له فرقة الفن الحديث تموزيقرع الناقوس والخيط ليعود للفرقة القومية في اعماله الكبرى (المتنبي) (مقامات ابي الورد) (نديمكم هذا المساء) (الحصار) مطلقا من خلال هذا النصوص بيانه المسرحي معلنا المعركة ضد الاستسهال والتفاهة ضد اللا مسرح معركة ارادها حدا فاصلا بين المسرح كفن ياخذ الحياة بعين الاعتبار وبين النصوص الادبية الجامدة التي يطلق عليها جزافاً اسم مسرح.. تم تكريس عادل كاظم عربيا في مهرجان دمشق للفنون المسرحية ثم في مهرجان قرطاج وليتوج في القاهرة باعتباره واحدا من رواد الكتابة المسرحية في الوطن العربي يتسابق على نصوصه الدرامية المخرجون الذين في المسرحيات والنصوص التلفزيونية التي كتبها تحولا واضحا في اسلوب الكتابة وفي الموضوعات التي يطرحها ما لم يكن مألوفا في كتابات الدراميين الذين سبقوه الا فيما ندر ووجدوا فيها تشابها او تقارباً مع تقنيات الكتابة للمؤلفين الاوروبيين .
عادل كاظم الذي تخرج من الدورات الاولى لاكاديمية الفنون الجميلة ، فتن منذ شبابه بالعمل السياسي فهو من عائلة يسارية الهوى والمبدأ وأدركته حرفة الأدب والفن من ناحية أخري فأجهض بذلك حلم أبيه الموظف المستنير الذي حاول ان يقنع ابنه أن يكمل تعليمه في الحقوق ليتخرج محاميا يدافع عن البسطاء ، لكن عادل كاظم الفتى القادم من البصرة كان قد اكتشف القانون الذي يوحد بين الانسان والوطن و يحمي المجتمع من الانتهازية والغش والسرقة والطائفية والاستبداد ، من خلال اعمال مسرحية وتلفزيونية حافلة بالأفكار العميقة الحية التي قالت لنا جميعا ما هو الصح واين يمكن الخطأ .
صاحب الابتسامة التي لا تغيب.. بدأ مشواره العملي في الكتابة منذ ان كان طالبا في اكاديمية الفنون الجميلة ، فذات يوم دخل عبقري المسرح العراقي ابراهيم جلال الى قاعة الدرس ، يبحث عن طالب اسمه عادل كاظم اعطى احد نصوصه الى الاستاذ جعفر السعدي ، فتشاء الصدف ان يقرا النص ابراهيم جلال الذي قرر ان يقدمه للمسرح ، فكانت البداية مع الطوفان ، التي برزت من خلالها موهبته في الكتابة ، لتختطفه بعد ذلك فرقة المسرح الفني الحديث ، حيث قدم له سامي عبد الحميد تموز يقرع الناقوس والتي كانت اول مسرحية لفرقة المسرح الفني الحديث تعرض على مسرح بغداد ، بعدها قدمت له الفرقة من اخراج ابراهيم جلال مسرحية عقد حمار ، ليتم تعينه بالفرقة القومية كاتبا متفرغا فيقدم اروع الاعمال ، الحصار ، المتنبي ، نديمكم هذا المساء ، مقامات ابي الورد ، المومياء ، وليتفرغ لكتابة السيناريو التلفزيوني وكانت الذئب والنسر وعيون المدينة أروع وأنجح ما قدمه التليفزيون العراقي من مسلسلات تعكس وحدة إيقاع روح الفريق المتجانس من الاخراج الى التمثيل وكانت قدرة خليل شوقي وبدري حسون فريد وقداد عبد الرضا وقاسم الملاك وفوزية عارف ومحسن العزاوي وعشرات من نجوم الدراما أنه لا مجال لفصل الابداع التمثبلي عن قدرة المؤلف على صياغة الشخصية المؤثرة وامكانات المخرج القدير – ابراهيم عبد الجليل – على استخراج اجمل ما في الممثل من قدرات ابداعية .
واضافة الى الكتابة والنكتة التي يجيدها ، كان عادل كاظم يمارس هوايته في الطبخ مثل أي طاه محترف يقدم لضيوفه عينات متميزة يتذوقونها ، وفي مكتبته التي ضمت مئات من كتب السياسة والتراث والتاريخ والأدب والفن ، كانت هناك مساحة كبيرة لافلام الفديو جمعها من البلاد التي زارها، فقد كان من رأيه أن االفيلم السينمائي مثل القصيدة يكشف عن ابداع الكاتب ،وقد استغل بعض المخرجين حب عادل كاظم للتمثيل ، فعهدوا اليه ببعض الادوار الصغيرة التي تذكرنا بادوار هتشكوك في افلامه ، ففي معظم مسلسلات عادل كاظم كان هناك دور صغير يظهر فيه عادل كاظم الممثل الذي كان يمني النفس ان يصبح نجما سينمائيا مثل كيرك دوغلاس الذي سحره منذ طفولته وهو يشاعده في سينمات البصرة .
عادل كاظم طريح الفراش اليوم ، وهو يعاني من اهمال الحكومة مرتين ، الأولي عندما لم تكلف وزارة الثقافة نفسها بالسؤال عن رجل الدراما الاول في العراق ، والثانية بإهمال إعادة طبع اعمال المسرحية ، وهو اهمال اقرب الى الاغتيال المعنوي .
شاهد أيضاً
جنرالات وأشقاء.. بقلم سمير عطا الله*
لم يتعلم الإنسان أنه في الإمكان الوصول إلى اتفاق من دون إشعال حرب في سبيل الوصول إلى السلام، يسخر هواة الدماء والجثث من غاندي ومانديلا. آلة الحرب تدرّ مالاً وأوسمة وجاهاً. ويذهب الملايين إلى النسيان، كما هي عادة البشر منذ الأزل...