بعد ثلاثين عاما قضاها في السجن وبعد تنفسه عبير الحرية وقف العملاق المتواضع (نيلسون مانديلا) وهو يمسك بمقاليد السلطة رئيسا منتخبا لجنوب أفريقيا ويملك قرار (التسامح أو الإنتقام) من جلاديه ليقول للقاضي الذي زجّه في السجن ظلما وأمام وسائل الإعلام وحشود الحاضرين ( أنا أسامحك) ليرسي بهذه الكلمة فلسفة (العدالة الإنتقالية) التي اعتمدتها الأمم المتحدة في معالجة الملف المعقد لذلك البلد ونجحت في إرساء قيم التسامح والعيش المشترك وكبح جماح الإنتقام ونزعاته المميتة بتحطيم وإزالة أسباب الظلم والفصل العنصري وطي صفحته المظلمة وإشاعة معاني الحرية والسلم الإجتماعي ودولة القانون وبذلك أنقذت جنوب أفريقيا من دوامة عنفٍ قاتلة وهي الآن تنعم بالأمن والإستقرار واقتصاد هو الأكثر نموا وتطورا في أفريقيا..
يقول دي كليرك آخر رئيس أبيض لجنوب أفريقيا ( لقد ضبط العم مانديلا في نفوسنا جميعا غريزة العنف والكراهية) وما أحوجنا لهذا النفس لنداوي الجروح الغائرة التي أصابت البنية الإجتماعية نتيجة الإرهاب والفتنة والفشل والطائفية المقيتة…
التسامح هو القرار الإنساني الأكثر جرأة وذكاء ماضيا وحاضرا ومستقبلا فهو يقلب نتائج المعركة ضد الخصوم ويهزمهم بسلاح القوة الإنسانية الرافضة للظلم والاستبداد والكراهية وإرادة الحياة المحبة للسلام والمتمسكة بقيم الحرية والعدالة واحترام كرامة الإنسان وهذه من أقوى الأسلحة وأنجحها.. ولكن ذلك يحتاج إلى قرارات شجاعة وجريئة لا يرغب الكثير في مواجهتها…
التسامح مفتاح التعايش السلمي بين المجتمعات وإقتحام حكيم للعقبة النفسية وسباحة ضد التيار السائد وسلاح فعّال في مواجهة التطرف.. التسامح إبحار باتجاه السلام والاستقرار وبناء دولة القانون والمواطنة والعيش المشترك…!!! أما الكراهية والحقد والانتقام وتصفية الحسابات فهي ليست إلا وصفة جاهزة للخراب والعنف وستخرجنا حتما من السباق نحو المستقبل وتبعدنا عن كل ما هو متحضر ومستنير في هذا العالم وتدخلنا نادي الخاسرين وفي انفاق معتمة لا سبيل للخروج منها على على أنقاض الفقر والمرض والتخلف والظلام…
*مستشار وناطق رسمي سابق للقوات المسلحة ووزارة الدفاع وقيادة عمليات بغداد