صار الاستفتاء على استقلال كردستان العراق أمراً واقعاً قبل إجرائه في 25 الشهر الجاري، وستصوّت غالبية ساحقة من سكان الإقليم بـ «نعم». هكذا الاستفتاءات ونتائجها في العالم الثالث، وهكذا هي حتى في العالم الأول إذا كانت مسبوقة بحملات إعلامية طاغية، كما في تصويت البريطانيين على الانسحاب من الاتحاد الأوروبي. المهم، ماذا بعد الاستفتاء؟
أميركا وروسيا وتركيا وإيران، أبدت تحفّظاً على الاستفتاء، وبعضها دعا إلى تأجيله لأن الوقت غير مناسب، خصوصاً في مرحلة اتفاق إقليمي ودولي غير مسبوق لإنهاء تنظيم «داعش» بالسلاح، تمهيداً لتجفيفه فكرياً بجهود قيادات سياسية ودينية، حفظاً للإيمان الإسلامي ولمصالح المسلمين في بلادهم وفي العالم.
لكن مسعود بارزاني يرى الوقت مناسباً، وبالتحديد لأن الجوار الجغرافي لكردستان العراق منشغل بمشكلات حيوية تمنعه من تعطيل الاستفتاء: حكومة بغداد المركزية والبرلمان أعلنا معارضة خطوة بارزاني، وقال حيدر العبادي: «حذار ممن يريد أن يجرّنا إلى فتنة جديدة يكون الكلّ فيها خاسراً». لكن الحكم في بغداد لم يستكمل القضاء على «داعش» على رغم تحرير مساحات شاسعة كان يحتلها التنظيم الإرهابي، فضلاً عن أجواء خلافات في التوجُّه السياسي بين أركان التحالف الشيعي وبين قادة العرب السنّة في ما يتعلق بأولويات تكوين الدولة العراقية بعد صدام حسين وتمكينها، وتحقيقها قدراً كافياً من الاستقلال أمام الضغوط السياسية الخارجية، خصوصاً الضغط الإيراني.
وأميركا التي أسقطت نظام صدام وأهملت تكريس نظام بديل، تاركة العراق بلا جيش ولا إدارة، لاحظت الفراغ القاتل في تلك الدولة العربية المهمة، فعمدت إلى المساعدة في إعادة بناء مؤسسات الدولة في مسار لم يستكمل أهدافه. وترى واشنطن أن وجودها في العراق سيبقى حاجة لبغداد، على الأقل للتوازن مع التأثير الإيراني الطاغي.
وروسيا غير معنية بالاستفتاء الكردي، لكونها تكتفي بوجودها العسكري والسياسي في سورية وبعلاقاتها المتينة مع جاري العراق، تركيا وإيران.
أما طهران التي ناصرت الأكراد في مراحل حرجة مثلما حدث في عين العرب (كوباني)، فهي تعارض الاستفتاء من دون أن تصل إلى القطيعة مع دعاته، وهي تكتفي بما حققت من تأثير في العراق وسورية وبعض لبنان.
وتبقى تركيا التي تبدو للوهلة الأولى أبرز المتضررين وأول المعارضين، لكنها في الواقع تنتهج سياسة براغماتية، لأن مسعود بارزاني داعية الاستفتاء وراعيه هو صديقها وحليفها وشريكها في مواجهة حزب العمال الكردستاني الذي تصنّفه إرهابياً. هذا فضلاً عن علاقات اقتصادية مع أربيل تبدو رابحة للأتراك، خصوصاً في مجال تصدير النفط. هنا يتراجع الاهتمام بكركوك وبتركمانها المتضررين من ضم المدينة ومنطقتها إلى كردستان، كما يتراجع التخوُّف من انتقال عدوى الاستقلال إلى أكراد تركيا. ربما ترى أنقرة في تمرير الاستفتاء رسالة ترضي هؤلاء وتدفعهم إلى التنصُّل من حزب العمال الكردستاني.
صار الاستفتاء الكردي أمراً واقعاً، لكن مشكلته الحقيقية في كردستان العراق بالذات وصراعات الزعماء والعشائر، والسؤال عن حدود زعامة العائلة البارزانية. ولن يستطيع يساريو العراق وليبراليوه التأثير في الشعب الكردي حينما يستيقظ من مرحلة الحماسة القومية. إنهم يشعرون بالعرفان لهذا الشعب الذي أيدهم وحصّنهم حين كانت الدولة البعثية تطاردهم في داخل العراق وخارجه.
الاستفتاء سيحدث، لكن الاستقلال مؤجل بالضرورة خوفاً من شَبَحَيْ الفوضى والحصار.