هل ثمة قيود قانونية ترد في النظم الديمقراطية على حرية التعبير عن الرأي؟ أقرت المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان أن تدخل الدول لتقييد الحق في حرية التعبير عن الرأي وتداول المعلومات ينبغي أن يرتبط «بحاجات مجتمعية ماسة»، وأن ممارسة الدول لحقها في توظيف مفهوم «الحاجة المجتمعية الماسة» يقتضي الإفصاح والتنظيم القانونيين على نحو يسهل إدراكه من قبل للمواطنين وينتفي عنه التعسف كما تغيب عنه المبالغة في نزوع الدول إلى تقييد الحرية.
في حكم شهير أصدرته في عام 1979 وتعلق بنزاع بين صحيفة صنداي تايمز البريطانية والحكومة البريطانية، غلبت المحكمة الأوروبية جانب الحق في حرية التعبير على الرأي على المناوئة الجنائية للحكومات والمحاكم بأن اعتبرت قيام الصحيفة المذكورة بنشر مادة عن عقار طبي على الرغم من أمر محكمة بريطانية بالامتناع عن النشر بمثابة ممارسة مشروعة للحرية التعبير عن الرأي لم تحمل إضرارا بالأمن القومي لبريطانيا أو بالسلامة الإقليمية للدولة أو بالآمان العام، ونفت عنها شبهة التورط في المناوئة الجنائية للمحاكم. بعبارة أخرى، قدمت المحكمة الأوروبية حرية الرأي والنشر وتداول المعلومات على قيود تعسفية لا ضرورات تبررها، حتى وإن كان مصدر هذه القيود أحكام وقرارات المحاكم.
كما تناولت نفس المحكمة في العديد من الأحكام الأخرى حرية التعبير عن الرأي فيما خص القضايا محل الاهتمام العام ولجهة تعبير المشاركين في الحياة السياسية عن رأيهم بشأنها. قدمت المحكمة حق المواطن والرأي العام في الحصول على المعلمات المتعلقة بالقضايا العامة وتداولها الحر والتعرف على الآراء المختلف بشأنها على القيود المفروضة على حرية التعبير عن الرأي في المادة رقم 10 من العهد الأوروبي لحقوق الإنسان والحريات الأساسية. تنص تلك المادة على أن «1. لكل فرد الحق في التعبير الحر عن الرأي. يشتمل هذا الحق على حرية اعتناق الآراء والحصول على المعلومات والأفكار ونشرها دون تدخل من السلطات العامة وبمعزل عن الحدود الفاصلة. ولا تمنع هذه المادة الدول من اشتراط الترخيص لمؤسسات الإعلام والتليفزيون أو السينما، 2. لأن ممارسة هذه الحريات ترتبط بواجبات ومسؤوليات، فإنها قد تخضع لإجراءات رسمية أو شروط أو قيود أو عقوبات ينص عليها القانون، وتعد ضرورية في مجتمع ديمقراطي، وتصب في مصلحة الأمن القومي أو السلامة الإقليمية أو الآمان العام، أو تأتي من أجل منع الفوضى أو الجريمة، أو من أجل حماية الصحة العامة أو الأخلاق، أو من أجل حماية سمعة الأفراد الأخرى وحقوقهم، أو من أجل الحيلولة دون الإفصاح عن معلومات ذات طبيعة سرية، أو بغرض الحفاظ على سلطة وحياد القضاء».
أقرت المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان بحق السياسيين في التعليق على قضايا الرأي العام، بما فيها أحكام المحاكم وقراراتها وأوامرها بعد إصدارها ودونما تعرض لسمعة الأفراد الآخرين وحقوقهم الشخصية ـ والإشارة إلى الأفراد الآخرين هنا وجهتها هي من يوضعون في مواضع الاتهام من قبل النظم القضائية، والقضاة الذين يتولون إدارة تلك النظم ويسهرون على مرفق العدالة والذين أيدت المحكمة في حالتهم إنزال العقاب القانوني بمن يتورطون في إهانتهم شخصيا بينما أكدت على الحق في التعليق على أحكامهم كقضايا للرأي العام. وأردفت في حكم لها صدر في عام 1986 مؤكدة على ضرورة ممارسة قدر أكبر من «التسامح» مع تعبير المشاركين في الحياة السياسية عن آرائهم بشأن القضايا العامة وممارسة السلطات العام لأدوارها لما لذلك من آثار هامة على بناء النظام الديمقراطي.
في عام 1995، قضت المحكمة الأوروبية في نزاع بين صحافي وناشر وبين دولة النمسا كان موضوعه إدانة محكمة نمساوية للصحافي وللناشر (تمثلت العقوبة في الغرامة المالية) لتشويههما «سمعة قاض» بإن تشويه سمعة القضاة «الشخصية والمهنية بنشر مادة صحافية تسيء لهم» يتناقض مع شرط حماية سمعة الأفراد الآخرين وحقوقهم الشخصية الوارد كقيد موضوعي على ممارسة حرية التعبير عن الرأي. وأقرت المحكمة بوجود فارق جوهري بين تشويه سمعة القضاة الشخصية والمهنية وهي تهدم مصداقية القضاء وتعوق العدالة وبين تناول أحكام القضاة بالتعليق وبإبداء الرأي وبتوجيه الانتقاد المرتبط بموضوع الأحكام وجميع ذلك يندرج تحت الممارسة المشروعة وغير المجرمة لحرية التعبير عن الرأي ويخدم الهدف المجتمع العام في مراقبة أعمال السلطات العامة وترسيخ قيم الديمقراطية.
ثم عادت المحكمة الأوروبية في عام 1997 لتقضي بعدم جواز إنزال العقوبة بصحافيين بلجيكيين تناولا بالانتقاد أحكام أصدرها عدد من قضاة الاستئناف في دولتهم، ورسخت المحكمة في هذا الصدد لضرورة تمكين الصحافة والإعلام والسياسيين من تناول أحكام المحاكم بالتعليق وبإبداء الرأي، ولحتمية تفعيل قدر أكبر من «التسامح» مع هذه الفئات حتى حين يتسم تعبيرها عن الرأي بالمبالغة أو الاستفزاز. وربطت المحكمة الأوروبية بين رأيها هذا وبين «الخير العام» و«المصلحة العامة» وهما يتمثلان في تمكين المواطن من بناء الرأي حول القضايا العامة بالتعرض لآراء متنوعة، كما في مراقبة الرأي العام لعمل السلطات العامة وتقويم ممارساتها والحيلولة دون تورطها في تجاوزات أو انحرافات.
خلال السنوات الماضية تعددت الأحكام الصادرة عن المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان إن ذات الصلة بسؤال إدارة العدالة وحرية التعبير عن الرأي أو المرتبطة بعمل النظم والهيئات القضائية والمصلحة العامة المتمثلة في تعرف الرأي العام على أحكام القضاء ومناقشتها كمكون أصيل في مراقبة الناس للسلطات العامة. وقد تابعت المحكمة الأوروبية التأسيس لمبادئ ثلاثة كبرى.
أولا، الحق في التعبير الحر عن الرأي ينتهي عند حدود الإخلال بحق الأفراد الآخرين في صون سمعتهم وحرياتهم الشخصية، وكذلك عند حدود الإخلال بحق الأفراد في الحصول على محاكمات عادلة وحق أعضاء الهيئات القضائية في أن لا تناوئ سلطات المحاكم داخل قاعاتها لكي لا تعوق إدارة العدالة أو يتعرض البعض للقضاة بالانتقاد الشخصي أو التجريح الشخصي على نحو يهدم الثقة العامة في القضاء.
ثانيا، الحق في التعبير الحر عن الرأي يضمن للأفراد حق تناول أحكام القضاء المتعلقة بقضايا رأي عام بالتعليق والتساؤل والتفنيد والتقييم شريطة عدم التورط في مناوئة المحاكم أثناء عملها أو في التعرض للقضاة على نحو مشخصن. قانونيا وفلسفيا، يستند حق تناول أحكام القضاء بشأن قضايا الرأي العام إلى المصلحة العامة المتمثلة في تمكين الرأي العام من التعرف على وجهات نظر متعددة بشأن قضايا تشغل الناس والمصلحة العامة المتمثلة أيضا في تمكين المواطن من ممارسة حقه الأصيل في مراقبة عمل السلطات العامة ومن بينها السلطة القضائية. قانونيا وفلسفيا، ينحو المشرع في سياق العهود الدولية لحقوق الإنسان والحريات الأساسية كما القاضي في المحاكم الدولية إلى إرساء مبدأ حق المواطن في مراقبة عمل السلطات العامة عبر تمكينه من التعبير الحر عن الرأي والحصول الحر على المعلومات والأفكار وتداولها دون خوف من تعقب أو تهديد أوعقاب. وينبني على ذلك فيما خص عمل السلطة القضائية الاعتماد على دور الصحافيين والإعلاميين والسياسيين في التعليق على أحكام القضاء بشأن قضايا الرأي العام دون مناوئة للمحاكم داخل قاعاتها أو انتقاد وتجريح القضاة، ويلزم من بالتعامل مع الآراء العلنية لهذه الفئات على نحو يغلب اللين والتسامح على الغلظة والضيق لما لدورهم من أهمية في تحقيق المصلحة العامة والتمكين للنظام الديمقراطي.
ثالثا، حال تورط أفراد من المنتمين لفئات الصحافيين والإعلاميين والسياسيين في مناوئة المحاكم داخل قاعاتها ومن ثم تعويق إدارة العدالة أو في الإخلال بالثقة العامة في القضاء عبر التعرض الشخصي للقضاة أو في تهديد حق المواطن في الحصول على محاكمة عدالة من خلال نشر وتداول ما يضر بفرضية «البراءة حتى تثبت الإدانة» ويسيء للسمعة الشخصية، يصبح إنزال العقاب بالمتورطين إن في أمر من هذه الأمور أو فيها جميعا حتميا. وهنا تغلب الهيئات القضائية فرض غرامات مالية على توقيع عقوبات سالبة للحرية.
*باحث غير مقيم برنامج كارنيغي للشرق الأوسط