بعد تداعيات الإستفتاء، ووضوح المواقف الدولية والإقليمية، ومن ثم التحولات على الأرض، وتغير الموازين، غدا إقليم كردستان في وضع صعب ومعقد جداً بخاصة من الناحية الإقتصادية، بالإضافة إلى التعقيدات السياسية التي نمت بوصفها كانت أصلاً موجودة وشبه مستعصية كون الخلافات عميقة وخطيرة بين الأحزاب والقوى السياسية الكردية، إذ أنَّ بعض هذه الخلافات المستندة على مبدأ المصالح والسلطة والنفوذ فهي تبدو في بعض الأحيان مغلفة بالإختلاف الرؤيوي والإيديولوجي، فرغم كون القضية الكردية قضية قومية لكن مشارب ومنابع الأحزاب والقوى السياسية الكردية مختلفة فمنها من تولدت من رحم القومية ومنها من تولدت من رحم اليسار ومنها من تولدت من رحم الاسلام الإخواني وكذلك السلفي، إضافة الى التحولات الأخيرة في نهاية العقد الأول من القرن الحادي والعشرين حيث تمخضت حركات أخرى عن القوى الراديكالية مثل حركة التغيير التي جاءت مخاضاً لحراك سياسي داخل صفوف الإتحاد الوطني الكردستاني الذي كان يتزعمه الراحل جلال طالباني.
اليوم ونحن نعيش تداعيات الإستفتاء نلحظ التخلخل الذي أصاب التوازنات القائمة، وتخلخل شكل العلاقة بين اربيل وبغداد بشكل ملفت للنظر من جهة، وبين أربيل والعواصم الاقليمية بخاصة ( أنقرة وطهران) من جهة أخرى، فمنذ بداية الترويج للإستفتاء غدت المواقف الاقليمية والدولية تتضح شيئاً فشيئاً، الى أن تبلورت هذه المواقف بشكل جلي مع بداية شهر سبتمبر(أيلول) 2017 أي ما يقارب الشهر قبل اجراء الإستفتاء، ورغم وضوح المواقف الدولية وتصاعد حدة الرفض الاقليمي الى درجة التلويح بالتدخل العسكري وبخاصة من قبل تركيا الاَّ أنَّ أربيل مضت باتجاه اجراء الاستفتاء وهذا ما أدى الى تناغم المواقف الدولية والاقليمية مع بعضها ومع بغداد فيما يخص مستقبل العراق وشكله السياسي، ومن ثم حدثت التحولات وجرت الأحداث بغير الرتابة المعهودة بل تسارعت بشكل ملفت للنظر بخاصة في المناطق المتنازع عليها ومنها كركوك والتي غدت تحت نفوذ السلطات الاتحادية العراقية وسط ترقب اقليمي ودولي حذر وحضور اقليمي ودولي ايضاً على الصعيد السياسي وذلك للحيلولة دون وقوع مواجهات عسكرية واسعة النطاق.
من تداعيات الاستفتاء هو حصول تصدع كبير في البيت السياسي الكردي، وهذه بالطبع متلازمة تاريخية مع وقوع كل حدث كبير فيما يخص القضية الكردية في العراق، هذا التصدع الخطير بحد ذاته شكل عائقاً – وما زال- أمام التفاوض بين أربيل وبغداد، إذ أنَّ هناك مركزية ووحدة في القرار السياسي في (بغداد) فيما يخص التفاوض مع (أربيل)، يقابله تشظٍ وانشطار خطير في القرار السياسي حيال نفس الموضوع في (اربيل)، فواقع الحال يقول: أنَّ هناك أكثر من رؤية و قرار وأكثر من ارادة تتوزع بين (اربيل) و(السليمانية)، فان كانت الاولى تمثل مركزاً مهماً للحزب الديمقراطي الكردستاني، فانَّ الثانية تمثل مركزاً لحركة التغيير من جهة وللإتحاد الوطني الكردستاني من جهة، وهذا الأخير بحد ذاته يعاني من اختلافات بل وخلافات في وجهات النظر حيال مسألة التفاوض مع بغداد لحل جميع المسائل العالقة وكذلك حول شكل ادارة الإقليم.
ضرورة تنظيم البيت الكردي:
كما سبقت الاشارة فان البيت السياسي الكردي يعاني من التصدع وتشتت الرؤية الموحدة وهذه المتلازمة المؤلمة تعود الى حدة الخلافات بين القيادات السياسية على شكل ادارة الاقليم وحيثيات الخارطة السياسية الكردية ولعبة المصالح وصراع النفوذ، وهذه بحد ذاتها مشكلة على مستوى القيادات وليس على مستوى القواعد الشعبية والمجتمعية التي تعاني الأمرين، لذا ليس من الضروري فحسب بل من الواجب أنْ تفكر هذه القيادات مجتمعة بأوضاع مواطني اقليم كردستان الذين يدفعون ثمن هكذا صراعات مؤسفة قد تكون في يوم من الأيام كفيلة للإطاحة بكل شيء إنْ لم يتم تدارك الوضع من قبل هذه القيادات المختلفة والمتصارعة، وتفكر بشكل أكثر علمية وموضوعية بحياة وأوضاع المواطنين وبخاصة الاقتصادية التي وصلت الى حدٍ غير مسبوق، فما يعانيه الاقليم الآن لم يعانيه حتى أيام الحصار الاقتصادي الأممي على العراق منذ 2/8/1990 ولحد ما قبل الاستفتاء، بخاصة أن الاقليم ومنذ سقوط النظام الديكتاتوري عام 2003 شهد انتعاشاً اقتصادياً وعمرانياً ونهضة في مجال الاستثمارات واكتفاءً ذاتياً على مستوى الدخل الفردي بشكل لم يشهد له مثيل منذ منذ تأسيس الدولة العراقية الحديثة عام 1921، وهذه الحالة بالطبع تولِّد آثاراً نفسية على سايكولوجية المجتمع الكردي وكذلك على سايكولوجية الفرد الكردي إنْ حضرت هناك حالة من المقارنة بين الوضع الحالي، والوضع الذي سبق تدهور العلاقة بين بغداد واربيل منذ بداية عام 2014.
هنا يرى الكاتب بأنَّه يفترض بالقيادات السياسية في اقليم كردستان الدخول في مفاوضات ومباحثات سريعة وجادة مع بعضها، وترك الخلافات العميقة أو وضعها جانباً،والدخول في عمليات (مساومة…!) لتجاوز الأزمة وترميم العلاقة فيما بينها وذلك للخروج برؤية موحدة وبقرار سياسي موحد وبخطاب اعلامي موحد وتشكيل وفد تفاوضي يشمل كل الاطراف الكردستانية الفاعلة للشروع في مفاوضات جادة مع الحكومة الاتحادية في بغداد، إذ لا يمكن لبغداد أيضاً الآن التفاوض مع جهة كردية دون أخرى بخاصة أنَّ شكل الصراع الملحوظ حالياً (كردي- كردي)، أما عن مصطلح(المساومة) والتي تعمدت وضعها بين مقوستين فأعتقد أنَّه من الأهمية بمكان أنْ لا يُساء الفهم فالـ( مساومة) فنٌ سياسي وادارة للأزمات وليست منقصة، وإنْ كانت بعض القوى في الشرق الأوسط تموه جماهيرها بأنَّ المساومة خيانة، فحقيقة الأمر أنَّ هذا الخطاب الاعلامي هو للاستهلاك المظهري والاعلامي، لكن واقع الحال يؤكد أن اغلب القوى السياسية في شرقنا المتعب والمثقل بالآلام والمآسي تدخل عمليات مساومة، وهذا ما لايعد انتقاصاً بل قد يكون آلية من آليات إدارة الأزمات السياسية والإقتصادية وفق الرؤى الحديثة والمستقبلية، وهنا سيكون لزاماً أن تكون تكون هناك رؤية مستقبلية لدى الأحزاب والقوى السياسية الكردية التي مازالت تفتقر الى مراكز الأبحاث والدراسات الفكرية الرصينة.
أهم ما يُراد اليوم هو أنْ تتحلى كل القيادات الكردية بروح تجاوز الخلافات فيما بينها واللجوء الى منطق الحوار الايجابي المفعم بروح قبول الآخر من أجل هدفٍ أسمى ألا وهو الحالة المعيشية لمواطني الاقليم الذين يعانون اشد المعاناة.
نمطية وشكل الوفد التفاوضي:
خطورة الأوضاع وحساسية المعطيات ونمطية التداعيات تستدعي وبسرعة تجاوز الخلافات وتشكيل وفدٍ كردي تفاوضي واسع الأطياف السياسية، وذلك للشروع في مفاوضات دقيقة تسودها المكاشفة والمصارحة مع بغداد وعلى أساس دستوري بعيد عن لغة الصفقات السياسية واتفاقيات الـ(جنتلمان) الشفوية التي ستكون آيلة للتهاويكسابقاتها، ويفترض أنْ يكون الوفد التفاوضي الكردي مميزاً ويتكون من مفاوضين متمرسين ويكون أعضاؤه من الخطوط القيادية الأولى للأحزاب الكردية لا أنْ تكون شبيهة بالوفود التي سبقت الاستفتاء مع احتفاظي باحترامي لأعضاء تلك الوفود، لكن حقيقة الأمر أنَّ بعض أعضاء الوفدالكردي لم يكونوا في وضع يؤهلهم لإدارة المفاوضات في موضوع مصيري خطير وكبير ومفصلي يتعلق بوضع ومتطلبات وطموح وتطلعات شعب بأكمله، لذا سيكون من الأهمية بمكان أنْ تولي القيادات السياسية الكردية هذا الأمر اهتماماً كبيراً كون ان عملية التفاوض مع بغداد هي الأخرى ستكون صعبة ومتشعبة ومعقدة وهي دونما شك ستكون في حاجة لمفاوضين من طراز مميز.
*كاتب واعلامي وأكاديمي كردي عراقي