تقف تركيا حالياً أمام منعطفات تقودها جميعاً إلى مأزق شامل في تعاطيها مع الملف السوري وتداعياته عليها داخلياً. فكلّ خطر حاولت إبعاده أو تجنّبه ما لبث أن ارتسم وتأكّد. وفي حين استطاع جميع اللاعبين في سورية ترتيب مصالحهم، موقتاً، يغلب على حسابات تركيا السعي هاجس الحدّ من الخسائر. وفيما تقاسمت الولايات المتحدة وروسيا «الانتصار على داعش» وتبنيان عليه، وشاركهما فيه النظام السوري وإيران ليبنيا عليه أيضاً، حاولت تركيا إبراز عملية «درع الفرات» كمساهمة ناجحة ضد «داعش»، إلا أن الآخرين يواصلون تحميلها مسؤولية أساسية في تدفّق المقاتلين الأجانب، وتتضافر جهودهم لفرملتها وإبقاء مكاسبها محدودة، خصوصاً لعدم تمكينها من استثمار الدور الذي منحتها إياه روسيا في تحجيم قوة أكراد سورية الذين استفادوا أولاً من تعاونهم مع نظام بشار الأسد والإيرانيين، ثم ظفروا بدعم أميركي متعاظم وسعي روسي دائب لاحتضانهم.
تمرّ العلاقات التاريخية بين تركيا والولايات المتحدة بأسوأ مرحلة على الإطلاق، وعلى رغم صلابتها المزمنة وبعدها الاستراتيجي المؤكّد إلا أنها لم تصمد أمام «الإغراء الكردي» الذي تعلّقت به واشنطن ولم تبالِ بأخطاره على دولة حليفة كتركيا ولم تحرص على طمأنتها أو على توثيق أي ضمانات لتهدئة مخاوفها على وحدة جغرافيتها. فالمقاتلون الأكراد لم يكونوا فقط أداة فاعلة في يد أميركا لمحاربة «داعش» بل أشعروها للمرّة الأولى بأن لديها «مصالح» في سورية، لذلك فهي تعمل لبقاء مديد في الشريط الشمالي أسوة ببقاء روسيا المديد لإدارة مصالحها في عموم سورية. ومع أن أنقرة اندفعت في علاقة متقدّمة مع موسكو، واستحصلت منها على دور في سورية، إلا أن تعاونهما لم يرقَ إلى مستوى الشراكة التواطؤية بين روسيا وإيران، فظلّت الشريك الثالث الطارئ الذي يعوّلان عليه لاستكمال ضعضعة المعارضة العسكرية وإدارة هزيمتها الميدانية. وحتى عندما حصل فجأة تنسيق بين تركيا وإيران تصدّياً لولادة دولة كردية مستقلة منفصلة عن العراق، ظل تقاربهما محدوداً بسبب خلافهما على مصير الأسد ونظامه، وفيما خسرت تركيا جانباً مهمّاً من استثماراتها مع كردستان العراق تنفرد إيران حالياً بإعادة هندسة العلاقة بين بغداد وأربيل.
يجمع خبراء ومراقبون على أن تركيا راكمت الأخطاء في الأعوام الأولى للأزمة، سواء مرغمةً أو بإرادتها وتردّدها، إذ أضاعت وقتاً طويلاً في البحث عن تفويض أميركي أو أطلسي في سورية وتبيّنت باكراً أنها لن تحصل عليه فأحجمت عن التدخّل المباشر عندما كان متاحاً، حتى ولو في شكل محدود. وحين فضّلت الحرب بالوكالة، عبر دعم فصائل المعارضة، أخطأت أيضاً في «أدلجة» خياراتها بإعطاء أولوية للإسلاميين بدلاً من التركيز على «الجيش السوري الحرّ» الذي كان واضحاً أن النظام والإيرانيين يعتبرونه عدوّهم الأول والأخطر، وما لبث الروس بعد تدخّلهم أن جعلوا إضعافه إحدى أولوياتهم لإنقاذ النظام.
كانت خسارة المعارضة وفصائلها فادحة نتيجة التدخّل الروسي، لكنها لحقت أيضاً بالدول التي دعمتها، كما وضعت أي دور لتركيا على محكٍ تسارعت صعوباته، ليس فقط بتداعيات إسقاط طائرة «السوخوي» بل أيضاً في نأي «الناتو» بنفسه عن أي مواجهة مع روسيا. ثم تراكمت الصعوبات في العلاقة مع الولايات المتحدة، من مفاوضات شاقة على اتفاق إتاحة قواعد تركية للطائرات المشاركة في «الحرب على داعش»، إلى الملف الشائك المتعلق بتسليح الأميركيين أكرادَ سورية ودخول أكراد تركيا على الخطّ، وصولاً إلى المحاولة الانقلابية (15/07/2016) التي تتهم أنقرة واشنطن بدعمها.
شكّلت هذه المحاولة نقطة تحوّل في تفكير الطاقم الحاكم، لذا كانت زيارة رجب طيّب أردوغان الخارجية الأولى بعدها إلى روسيا، وفي أواخر آب (أغسطس) 2016 أطلقت تركيا عملية «درع الفرات» لطرد «داعش» من غرب النهر إلى شرقه. وهي عملية أجازها فلاديمير بوتين ليدعم أردوغان ويظهره كمَن بدأ يحقق لتركيا طموحاتها في سورية، وأيضاً ليجتذبه إلى مقاربة مختلفة للملف السوري، إذ كانت معركة حلب محتدمة وقتذاك ولم تُحسم إلا بعد ثلاثة شهور وبعدما استكملت روسيا تدميرها المنهجي شرقَ المدينة، وعندذاك انخرط الروس والأتراك في تفاوض على ترتيبات انسحاب مَن تبقى من مقاتلين ومدنيين في المدينة. كان ذلك تدشيناً لدور تركي في مراحل تالية بوشرت بإنشاء «الثلاثي الضامن» لوقف النار الذي لم يطبّق ويُلتزَم إلا في مناطق المعارضة، أما قوات النظام والميليشيات الإيرانية فتابعت قضم مناطق هنا وهناك، خصوصاً في محيط دمشق. وتطوّر هذا التعاون مع اجتماعات آستانة وصولاً إلى الاتفاق على المناطق الأربع لـ «خفض التوتّر» التي استمرّ الطيران الروسي يقصفها باستثناء تلك الواقعة جنوب غربي سورية والخاضعة لاتفاق خاص بين روسيا وأميركا والأردن (وإسرائيل ضمنياً).
بعد مرور ثماني شهور على هذا الاتفاق لم تتمكّن الدول الثلاث «الضامنة» من تفعيل آليات مراقبة لـ «خفض التوتّر» أو إشراك دول أخرى في تلك الآليات، كما تعهّدت، بل إن ثلاثي روسيا وإيران والنظام دفع خلال تلك الفترة بمزيد من النازحين المرحّلين قسراً من منطقتَي «خفض توتّر» إلى منطقة أخرى هي محافظة ادلب حيث تجمّع خليط من فصائل مصنّفة «معتدلة» (الجيش الحرّ) وأخرى «متطرّفة» (أبرزها «هيئة تحرير الشام»/ «جبهة النصرة» سابقاً). وإذ طلبت تركيا تولّي ترتيب الأوضاع في إدلب فقد نالت من الشريكين موافقةً ملتبسةً. وقبل ذلك كانت عملية «درع الفرات» اصطدمت بخطّين أحمرين: أولاً، لم يسمح الأميركيون لتركيا بالوصول إلى منبج، حتى أنهم عطّلوا نظام «جي بي إس» لشلّ حركة قواتها، ثم أرسلوا قوة مراقبة رافعة العلم الأميركي لمنع قوات النظام وإيران من دخول المدينة ولإبقاء سكانها العرب تحت سيطرة كردية لا يريدونها. وثانياً، هبطت فجأةً قوة روسية في منطقة عفرين لتجعلها تحت حمايتها… إذاً، كان هناك اتفاق روسي – أميركي على إحباط استخدام تركيا دورها في سورية ضد الأكراد. وكما حال الأميركيون دون أي مشاركة لها في معركة الرقّة، على رغم إلحاحها، كذلك لم يوافق الروس على طلبها إخراج المقاتلين الأكراد من عفرين كشرط لتنفيذ مهمّتها في إدلب.
انطوت التصريحات الأخيرة لأردوغان، قبل استدعاء الخارجية التركية السفيرين الروسي والإيراني والقائم بالأعمال الأميركي وبعده، على ثلاث دلالات: 1) إن تركيا بلغت مفترقاً خطيراً، فمن جهة أخفقت في ثني الأميركيين عن تسليح الأكراد ودعمهم لإنشاء كيان خاص بهم في شمال سورية وضمّ مناطق عربية إليه، ومن جهة أخرى لم تستطع إقناع روسيا بتوجّساتها الكردية بل إن موسكو تراهن على التعاون مع الأكراد على المدى الطويل. 2) إن شريكي اتفاقات آستانة، الروسي والإيراني، لم يتخلّيا عن هدف السيطرة على كامل سورية بل إنهما عهدا إليها في سياق هذا الهدف بمهمة تصفية المجموعات المتطرّفة في إدلب إمّا بمهاجمتها مباشرة أو باستخدام الفصائل ضد بعضها بعضاً، وعندما أصرّت على خطط استخبارية لاختراق المنطقة وعزل «النصرة» أطلقا مع النظام هجمات واسعة جنوب شرقي إدلب في تهميشٍ واضح للدور التركي. 3) إن عدم استكمال عملية «درع الفرات»، بتوسيعها إلى منبج وتحييد عفرين وإخراج المقاتلين الأكراد منها كحدٍّ أدنى، يجعل «مناطقها» في شمال سورية عرضة للتأكّل بهجمات أسدية – إيرانية يغطّيها الروس جوّاً، بالتالي فإن تركيا قد تضطر لاحقاً لاستقبال ما لا يقلّ عن مليوني نازح إضافي.
أخطر ما في مأزق تركيا أن إخفاقاتها استراتيجية ويصعب تصحيحها أو تعويضها، فالشريكان الروسي والإيراني وحتى الحليف الأميركي ربطوا مصير دورها بمصير فصائل المعارضة التي يريدون جميعاً تصفيتها. ويعزو بعــــض المراقبين إلى الغضب التركي عــــودة الفصائل السورية إلى القتال وتحقيقها نتائج مفاجئة في إدلب وحرستا ضد قوات النظام وإيران. وإذا كان بوتين فضّل استبعاد مسؤولية تركيا عن الهجمات بطائرات مسيّرة (درون) على قاعدتي حميميم وطرطوس، فلأنه يريد حالياً استمرار دورها في إدلب وينتظر أن تضغط على المعارضة لتشارك في مؤتمر «الحوار السوري» في سوتشي، لكن أنقرة تتوقع ثمناً لذلك في عفرين وتلوّح بانتزاعه بالقوة. وفي المقابل تقدّم الأميركيون خطوات جديدة بـ «ترسيم» حدود «الكيان الكردي» والبدء بتشكيل قوة لحراسة حدوده، في ما يعدّ استفزازاً لا تملك أنقرة أي ردّ عليه.
* كاتب وصحافي لبناني