في شهر أيار/مايو المقبل، سيغمس العراقيون إصبع السبابة مجددًا في ذاك الحبر البنفسجي ويختارون ممثليهم في البرلمان. وعلى عكس الانتخابات السابقة، تتّسم هذه الانتخابات بأهمية فريدة لأنّها تأتي مباشرةً بعد إعلان الانتصار على تنظيم “داعش” في العراق. وسيشكّل البرلمان المقبل الحكومة التي ستواصل الدفاع عن العراق ضد عودة الإرهاب. وهذا ما يجعل من الانتخابات العراقية 2018 فصلًا آخر من فصول “الحرب على الإرهاب” في العراق. ولكنّ الحرب على الإرهاب ليست المؤشّر الوحيد على أهمية هذه الانتخابات. فتشير موازنة العراق للعام 2018 إلى عجز يبلغ نحو 13 تريليون دينار، ما يُظهر بوضوح حالة التراجع الاقتصادية التي يواجهها العراق. وبالتالي، تصبح الإصلاحات الاقتصادية بمثابة تحدٍّ آخر يجب أن يأخذه الناخبون في عين الاعتبار عند الإدلاء بأصواتهم. وبدأ رئيس الوزراء الحالي حيدر العبادي حربًا ضد الفساد مباشرةً بعد إعلانه الانتصار على “داعش”. وقد تكون هذه الحرب مجرد كلام فارغ، ولكنّ ذلك لا يقلّل من أهمية معناها، حيث ستشكّل الحرب على الفساد تحدّيًا للحكومة المقبلة أيضًا لدعم استقرار العراق. وعلى الرغم من أنّ الوقت مبكر لأي تنبؤات، هناك ثلاث ملاحظات تتعلق بالانتخابات العراقية لعام 2018 قد تساعد على إلقاء نظرة مسبقة إلى طبيعة الحكومة العراقية المنتخبة المقبلة.
يشكّل الانقسام السياسي النقطة الأبرز في الانتخابات العراقية، فهذا الانقسام لم يؤثر على الطائفتين الشيعية والسنية فحسب، بل أثّر بشكل كبير على الأكراد أيضًا. وبعد الاستفتاء الفاشل حول الاستقلال الذي أجري في إقليم كردستان، تبيّن أنّ الأحزاب السياسية الكردية لم تعد موحّدةً تحت مظلة ائتلاف “التحالف الكردستاني”. ويظهر التحالف الذي تم بناءه حديثًا بين “تحالف الديمقراطية والعدالة” و”حركة كوران” و”الجماعة الإسلامية في كردستان” كمرشّح قوي للغاية. وأعلن “الاتحاد الوطني الكردستاني” و”الحزب الديمقراطي الكردستاني”، وهما الجناحان الرئيسيان لـ “التحالف الكردستاني”، في وقت سابق أنّهما سيشاركان في الانتخابات في لائحتين انتخابيتين منفصلتين. الأمر الذي يترك الجانب الكردي من الانتخابات أكثر انقسامًا الآن من أيّ وقت مضى.
أما ضمن الطائفة السنية، فلم يظهر الانقسام حديثًا، بل حدث مباشرةً بعد انتخابات عام 2010. ففي عام 2010، اتّحدت القوى السياسية السنية الرئيسية مع الشخصية الليبرالية الشيعية إياد علاوي في “اللائحة العراقية”. ولكن في عام 2014، انقسموا بين “الاتحاد من أجل الإصلاح” التي شملت سياسيين عامين مثل “سالم الجبوري، وأسامة النجيفي وقاسم الفهداوي”، و”تحالف العربية” بقيادة صالح المطلك. ولا يزال السنة منقسمين في عام 2018 بين قائمتين رئيسيتين، ولكن بتحالفات مختلفة. فقد دخل إياد علاوي وسالم الجبوري وصالح المطلك في “اللائحة العراقية” إلى جانب بعض قادة “قوات الحشد الشعبي” السنّية. وشكّل أسامة النجيفي وشقيقه أثيل النجيفي “تحالف القرار” إلى جانب قوى أخرى. كما تشكّلت بعض القوى السياسية الصغيرة بعيدًا عن الأطراف السنّية الرئيسية أيضًا، مثل تحالف قاسم الفهداوي.
تمرّ القوى الشيعية بالمرحلة الانقسامية الأسوأ منذ عام 2003. فقد بدأت بفصل عمّار الحكيم عن “المجلس الإسلامي الأعلى في العراق” وبتأسيس “حركة الحكمة”. وبالإضافة إلى ذلك، تمثّل هذه المرحلة نهاية “الزواج الكاثوليكي” بين “منظمة بدر” و”ائتلاف دولة القانون” (بقيادة نوري المالكي). ويرأس هادي العامري، وهو زعيم “منظمة بدر”، “ائتلاف الفتح” الذي يتكوّن من أجنحة سياسية للجماعات التي شكّلت “قوات الحشد الشعبي” مثل “عصائب أهل الحق”، وأيضًا من القوى السياسية التقليدية مثل “المجلس الأعلى الإسلامي في العراق”. كما أثّر الانقسام السياسي بـ”ائتلاف دولة القانون” في جوهره، ألا وهو “حزب الدعوة الإسلامية”. فهذا الحزب غير منقسم بشكل رسمي، ولكن يتوزّع أعضاؤه على لائحتين انتخابيتين إحداهما “ائتلاف دولة القانون” والأخرى “تحالف النصر”. ويترأّس “تحالف نصر” رئيس الوزراء حيدر العبادي الذي يحاول تأسيس تحالف مناهض للطائفية. وقام بتشكيل التحالف من أعضاء “حزب الدعوة الإسلامية” وعدد من الشخصيات السنّية والكردية.
ويشكّل الوجود المتزايد للقوى الصغرى الحدث الأبرز التالي في الانتخابات العراقية لعام 2018. فقد فصلت بعض القوى الصغرى نفسها عن التحالفات الكبرى واختارت أن تخوض السباق الانتخابي بمفردها. فعلى سبيل المثال، ستخوض “حركة إرادة” بقيادة حنان الفتلاوي الانتخابات بشكل مستقلّ، بينما ستظل محتفظة بتحالفها مع “ائتلاف دولة القانون”. ولن يتسبّب وجود قوى صغرى، إلى جانب انقسام التحالفات الرئيسية، بتوزّع الأصوات بين اللوائح الانتخابية الكبرى فحسب، بل سيبرز أيضًا دور القوى الصغرى. ويشير الانقسام الحالي إلى أنّ الانتخابات لن تحقق انتصارًا ساحقاً. ونتيجة لذلك، يُتوقع أن يكون البرلمان العراقي المقبل أكثر تنوعا من أيّ وقت مضى. وبالتالي، ستؤدي القوى الصغرى دورًا أكبر في هذه الانتخابات. فستفضّل اللوائح الكبرى ائتلافًا مع قوّة صغيرة بدلًا من قوة كبرى لتشكيل الحكومة لأنّ فرص التوصل إلى وضع مربح للجانبين في المفاوضات ستكون أفضل. وقد يفسّر هذا أيضًا “الأسباب الفنية” وراء الفصل السلمي لـ”حركة الحكمة” من “تحالف النصر” الذي حدث مؤخرًا.
بالإضافة إلى ذلك، ظهر بعض السياسيين في هذه الانتخابات البرلمانية بحلّة جديدة. ولأسباب وظروف مختلفة، غيّرت بعض الشخصيات السياسية القديمة نهجها السياسي هذه المرة لتظهر وكأنّها حديثة على الساحة السياسية العراقية. أولاً، شكّل “التيار الصدري” بقيادة مقتدى الصدر تحالف “سائرون” الذي يضمّ “الحزب الشيوعي العراقي” أيضًا. وعلى الرغم من أنّ تحالف “سائرون” يبدو حديثًا على الساحة، هو في الحقيقة قديم (تيار الأحرار 2014) ولكن بمظهر جديد. ثانياً، يعتبر “ائتلاف العدالة والديمقراطية”، الذي أسّسه العضو السابق في “الاتحاد الوطني الكردستاني” برهم صالح، لاعبًا جديدًا في الجانب الكردي من المعادلة. كما يظهر لدى السنّة سياسيون في حلّة سياسية جديدة. فعلى سبيل المثال، يرأس سالم الجبوري، الذي يُعتبر تاريخه السياسي إسلاميًا بالكامل، حزبًا سياسيًا جديدًا (وهو “المجتمع المدني للإصلاح”) في انتخابات أيار/مايو بعد انسحابه من “الحزب الإسلامي” في وقت سابق.
يشكّل كل من الانقسام السياسي والقوى الصغرى والحلل الجديدة للجماعات السياسية ثلاث نقاط بارزة تميّز الانتخابات العراقية لعام 2018. وبالتزامن مع ذلك، ستخلق الجماعات السياسية الجديدة تصادمات كبرى جديدة بين المرشّحين من الصفوف الأمامية. وتشير تلك الملاحظات أيضًا إلى أنّ الحكومة العراقية المقبلة لن تحقّق على الأرجح الإصلاحات التي تنادي بها. وسيكون الانقسام السياسي عائقًا أمام تشكيل حكومة ائتلافية، ولن يسمح تخصيص مقاعد البرلمان المقبل لواحد أو اثنين من الائتلافات بتشكيل الغالبية. ويعني ذلك تمكين التحالفات الصغرى، التي ستؤدي دور وسطاء السلطة. ويثير هذا الأمر التساؤلات حيال الحكومة المقبلة التي سيتم تشكيلها نتيجة هذه الانتخابات. فهل ستكون قادرةً على صياغة خطة أمنية للقضاء على التهديدات التي تطرحها بقايا “داعش”؟ وهل ستضع خطةً اقتصادية جيدة لإنجاز الإصلاحات الضرورية، أقلها تلك التي طلبها “صندوق النقد الدولي”؟ وهل سيتمكن رئيس الوزراء المقبل من مواصلة الحرب على الفساد؟
* ( باحث مستقل من العراق وخريج الجامعة الأميركية في السليمانية في العراق)