قيل الكثير في العراق عن أن رئيس الجمهورية الراحل جلال طالباني كان يستخدم صلاحيات «مام جلال» لإضفاء الهيبة على كرسي بلا صلاحيات فعلية، والرئيس الحالي فؤاد معصوم لم يكن يمتلك سوى صلاحيات الرئيس فتحول المنصب في عهده إلى هامش في أحداث وتداعيات مر بها العراق وكانت الأقسى والأخطر في تاريخه الحديث.
والتنازع الأخير بين رئيس الجمهورية ورئيس البرلمان حول الموازنة الاتحادية، كشف بشكل عملي حدود الصلاحيات الرئاسية، التي تتيح شكلاً الاعتراض على القوانين وإعادتها، لكنها في المضمون لا تمنح لذلك الاعتراض أي وزن قانوني، فلم يتطلب الأمر من البرلمان سوى «إهمال» الاعتراض وانتظار مرور 15 يوماً ليكون القانون مقراً تلقائياً سواء وافق الرئيس أو لم يوافق مطبقاً نص المادة 73 من الدستور.
تلك أزمة ذات طابع تأسيسي، فالدستور العراقي الذي يصف السلطة التنفيذية في المادة 66 منه بأنها تتكون من رئيس الجمهورية ومجلس الوزراء، يوحي بصلاحيات واسعة النطاق للرئيس، الذي يعتبره في المادة 67 بأنه يمثل سيادة البلاد ووحدتها ويسهر على ضمان الالتزام بالدستور، وكان منحه في المادة 60 حق تقديم مشروعات القوانين الى البرلمان أسوة بمجلس الوزراء، لكنه يعود في المادة 73 (ثالثاً) لتجريده من كل هيبته دفعة واحدة باعتبار أن اعتراضه على قوانين البرلمان بلا أثر قانوني.
القضية لا تخص الرئيس الحالي ولا السابق، فجوهر الفهم العام أن شخصية الرئيس وثقله السياسي وربما مكانة حزبه، هي من تمنح صوته أثراً، وليس صلاحياته الدستورية، فيها بعض المصداقية، لكن فيها الكثير من التسطيح أيضاً.
ولتعديل زاوية النظر يمكن القول إن منصب رئيس الجمهوية في العراق يتضمن صلاحيات دستورية كبيرة، في حال اختار الرئيس نفسه التصدي لها، والرئيس معصوم لم يكن بمعرض استخدام صلاحياته، ولا الإمكانات التي منحت للمنصب، واكتفى طوال أربع سنوات سابقة، بالنظر متفرجاً على سلب صلاحياته لأنه لم يدافع عنها، وتذكر في آخر أسبوع من تلك السنوات الأربع، حيث يستعد البرلمان لإغلاق أبوابه أن يعترض على قانون الموازنة، وهو اعتراضه الأول منذ توليه السلطة على أي قانون برلماني، قبل أن يرفع دعوى في المحكمة الدستورية مطالباً بصلاحياته.
الأقرب القول إن رئيس الجمهورية كان أول المخالفين للدستور العراقي عندما أهدر صلاحيات منصبه التي تتيح له الدفاع عنه، فلم يسع إلى دفع القوانين التي تخص الحقوق والحريات العامة كما كان متوقعاً منه، ولم يعترض على انتهاكات إنسانية تعرض لها العراقيون من السلطة التنفيذية قبل غيرها، ولم يصدر حتى لائحة بـ «الخروقات الدستورية» التي حفلت بها السنوات الأربع الماضية، كما أنه لم يقاض البرلمان على سلسلة من القوانين التي أصدرها وتشوبها شكوك، كما لم يقف ضد مجلس الوزراء في أي سلوك أو قرار أو أمر، بل لم يتصد لسلسلة طعونات بالوحدة الوطنية جاءت كخطاب كراهية متنام على لسان سياسيين ومتنفذين بلغات مذهبية وعنصرية وكان يجب أن يتم ردعهم على يد «رمز وحدة البلاد».
قد يكون الرئيس بلا أنياب قانونية كثيرة، لكن رئيساً عراقياً مقاتلاً من أجل حقوق أبنائه يمتلك ما يكفي من الأنياب لتحقيق الفارق وفرض نفسه ومنصبه في المعادلات والتوازنات السياسية.
ليس الأمر اعتراضاً على اعتراض الرئيس، بل على تأخره في الاعتراض، وعلى ترك المنصب ليتحول إلى ما يشبه دار استراحة ومشفى نقاهة لنوابه الثلاثة المخضرمين الذين فرضتهم أحزابهم بالقوة وبلا حياء، وبلا أدنى شعور بثقل التاريخ وحسابه، على مكاتب لم يجلسوا عليها طوال أربع سنوات.
من الطرائف اليوم أن السنة العراقيين الذين قاتلوا خلال السنوات السابقة للحصول على منصب رئيس الجمهورية، سيقاتلون بعد انتخابات أيار المقبل للاحتفاظ بمنصب رئيس البرلمان، وهذه المرة سيتنافسون بقوة مع القوى الكردية التي توصلت بدورها إلى قناعة بأن رئيس البرلمان أكثر نجاعة وفاعلية من رئيس الجمهورية الذي لن يحارب من أجل كرسيه أحد.
المقال منشور في موقع الحياة يوم الأحد 8 نيسان 2018
المنشورات تعبّر عن رأي كتابها