أثار برنارد لويس، المستشرق والمؤرخ البريطاني – الأميركي البارز والمختص في االشرق أوسط والتاريخ الإسلامي، الذي توفي السبت الماضي في مدينة نيوجيرسي الأميركية، الكثير من الجدل وتعرّض للنقد بسبب كتاباته وأقواله، وبخاصة دعوته للتدخل الغربي العسكري في العالم العربي والإسلامي لنشر الديمقراطية فيه، ونفيه “المجازر الأرمنية”، وآرائه حول “صراع الحضارات”، وكذلك دعمه لإسرائيل و”الإسلاموفوبيا” (رهاب الإسلام) و”الإيرانوفوبيا” (رهاب إيران).
ولد لويس في لندن لعائلة يهودية من الطبقة الوسطى في عام 1916، ودرس في جامعة لندن ثم في باريس، وحصل على درجة الدكتوراه من كلية الدراسات الشرقية على أطروحته “أصول الإسماعيليين”. وفي عام 1938، بدأ العمل كمحاضر مساعد في الدراسات الإسلامية في الجامعة نفسها. وخلال الحرب العالمية الثانية خدم في المخابرات البريطانية في الشرق الأوسط.
وعمل بين عامي 1949 و1974، كأستاذ لتاريخ الشرق الأدنى والشرق الأوسط في كلية الدراسات الشرقية والإفريقية (SOAS). وفي عام 1974، بعد علاقة غرامية قصيرة مع أميرة عثمانية، طلق لويس زوجته اليهودية الدنماركية روث هيلين. وقد أثّر هذا الطلاق على صداقته مع العديد من المفكرين اليهود مثل إيلي خدوري، لذلك شعر بالعزلة واضطر إلى الهجرة إلى الولايات المتحدة حيث تولى كرسي دراسات الشرق الأدنى في برينستون.
في أميركا، أصبح لويس أكثر انخراطاً في السياسة وبدأ في إجراء اتصالات مع أنصار المحافظين الجدد وبدأ في التأثير على النخب الأميركية من خلال وجهات نظره المثيرة للجدل تجاه الإسلام، والصراع العربي الإسرائيلي، و”صراع الحضارات”، والخوف من الإسلام و”التهديد الإيراني”.
كان لويس من أشد داعمي إسرائيل وكان من المفضلين لدى رئيسة الوزراء الإسرائيلية الراحلة غولدا مئير التي قالت إنها تقرأ كتبه. وقال رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو في رسالة تعزية إن إسرائيل ستظل دائماً فخورة بدفاع برنارد لويس الشجاع عنها، وأشار إلى أنه كان له الشرف في مقابلته مرات عدة على مر السنين.
حصل لويس على الجنسية الأميركية في عام 1982. وكما ذكرت صحيفة التلغراف في 15 شباط – فبراير 2004، فإن العامل الرئيسي في صعود لويس هو أنه كان سماسرة السلطة دائماً يأتون إليه، ليتعلموا منه. فرغم خلفيته البريطانية في الولايات المتحدة، كان رئيس مجلس سياسة السياسة الدفاعية الأميركية السابق ريتشارد بيرل، ونائب وزير الدفاع الأميركي بول وولفويتز، ورئيس مجلس الأمن القومي الأمريكي للشرق الأوسط إليوت أبرامز يسعون لمعرفة المزيد عن الشرق الأوسط من لويس منذ عام 1970. لقد بنيت باكراً هذه الشبكة طويلة الأمد وذات المنفعة المتبادلة. ومع فوز جورج بوش الإبن في الانتخابات الرئاسية عام 2000، تغير الوضع العالمي أيضاً.
لقد قام لويس بتقديم توصيات استشارية لعدد من الحكومات الأميركية والأوروبية خلال نصف قرن، والتي ألهمت بعض السياسات الغربية التي أثرت على الشرق الأوسط، وخاصة بالنسبة لإدارة جورج بوش. إذ كان لويس أحد مهندسي غزو العراق. ففي أعقاب هجمات 11 أيلول – سبتمبر 2011، حذر لويس في كانون الأول – ديسمبر من العام نفسه قائلاً: “إذا استمرت شعوب الشرق الأوسط في مسارها الحالي، فإن الانتحاري قد يصبح صفة للمنطقة بأكملها، ولن يكون هناك أي مخرج من دوامة الكراهية الهابطة والحقد، والغضب والشفقة على النفس، والفقر والقمع “.
لقد كان لويس محقاً تماماً فيما يتعلق بخطر ظاهرة الانتحاري التي شهدنا صعودها وجنونها مع تنظيم القاعدة وتنظيم داعش وأخواتهما. لكن وصفته لأميركا كانت رهيبة: “كن قاسياً أو أخرج”. تُعرّف صحيفة “وول ستريت جورنال” ما تسميه “مبدأ لويس” على أنه “زرع الديمقراطية في دول الشرق الأوسط الفاشلة لقمع الإرهاب”.
لقد شوهد الرئيس جورج بوش الإبن يحمل مقالات برنارد لويس إلى اجتماع في المكتب البيضاوي بعد هجمات 11 سبتمبر. وبعد ثمانية أيام فقط من هذه الهجمات، كان لويس يشرح لريتشارد بيرل، وقد جلس إلى جانب أحمد الجلبي، وذلك في اجتماع مهم مع وزير الدفاع الأميركي دونالد رامسفيلد، حيث دعا الاثنان إلى غزو العراق.
كان لويس يدعو إلى استخدام الحد الأدنى من القوة الغربية لفترة زمنية محددة من أجل إعادة المؤسسات السياسية إلى الشرق الأوسط، بدءاً من العراق. ويجادل بأن الديمقراطية تتمتع بفرصة أفضل للترسخ في العراق، أكثر من أي مكان آخر في العالم الإسلامي، بسبب ثروته النفطية، وطبقته الوسطى الكبيرة، وماضيه المستقر ومجتمعه العلماني.
لم يكن لويس موفقاً في وصف المجتمع العراقي بالعلماني فهذا المجتمع كان ولا يزال مجتمعًا محافظًا عشائرياً، شكّل تربة خصبة للشقاقات والفتن الدينية والمذهبية والعرقية.
لقد أعجب المؤرخ برنارد لويس، الذي تخصص في التاريخ العثماني، بنموذج تركيا الحديثة مع كمال أتاتورك الذي سيطر على السلطنة العثمانية وجرّ بلاده إلى محاكاة الحداثة الغربية، عن طريق فرض العلمانية المتعصبة التي ألغت الخلافة، وأغلقت المدارس الدينية وحظرت المظاهر الدينية وبينها الحجاب وغيرها من رموز الثقافة الإسلامية. من هنا، أسقط لويس الرؤية الكمالية للدولة العلمانية على الدول العربية من أجل هدف نشر الديمقراطية والحداثة. وكان هذا هو جوهر رؤية جورج دبليو بوش في العراق، حيث كان الهدف الرسمي لإدارته هو فرض “عقيدة لويس”: أي ديمقراطية غربية تفرض من فوق، أي أن يصبح العراق حصناً لأمن أميركا ونموذجاً للمنطقة.
ومن المفارقات أن العراق كان ينتقل من الحالة الأقرب إلى العلمانية مع حزب البعث إلى مجتمع أكثر تديناً وتطرفاً. لقد جلبت هذه القضية الكثير من النقد لبرنارد لويس من عدد من علماء الشرق الأوسط. ففي كتابه “قضية الحضارة الإسلامية المسيحية”، يجادل ريتشارد بولييت بأن “لويس كان يحصل على “روايته الرئيسية” عن العالم الإسلامي الخاطئ منذ أيامه المبكرة في تركيا وما زال يخطئ اليوم”.
علاوة على ذلك، كان لويس هو الذي صاغ مصطلح “صراع الحضارات”، ويعترف صامويل هانتينغتون بأنه التقطه منه. وأوضح لويس وجهة نظره في محادثة مع مركز بيو للأبحاث في 27 نيسان – أبريل 2006، في إجابة على سؤال: “لقد تحدثت من قبل عن الصراع بين الحضارات، وهو مصطلح تم استخدامه بكثرة وأسيء استخدامه أكثر. عندما استخدمته لأول مرة، كنت أستخدمه بمعنى محدود للغاية، ليس كمبدأ عام .. كنت أشير إلى صراع محدد بين حضارتين محددتين. العالم المسيحي والإسلام. وهو صراع لا ينشأ من اختلافاتهما بل عن تشابههما”. وأوضح أن هاتين الديانتين تؤمنان بأن “حقيقتهما ليست عالمية فحسب بل حصرية أيضًا. إنهما يعتقدان أنهم المستفيدان الوفيان من رسالة الله الأخيرة للبشرية.. لدينا ديانتان لهما تصور ذاتي مماثل وخلفية تاريخية مشابهة، لذلك يصبح الصراع حتمياً عندما يعيشان جنباً إلى جنب”.
وقد ساهم لويس في انتشار الإسلاموفوبيا أو الخوف من الإسلام والإيرانوفوبيا، الخوف من إيران، في المراكز العلمية والأوساط السياسية في الغرب. إحدى توصياته هي أن إيران هي أكبر تهديد في الشرق الأوسط للولايات المتحدة وحلفائها، وهذا أحد مبادئ الولايات المتحدة الذي تسببت في خسائر فادحة للغرب والعالم الإسلامي. وكان لويس أيضاً وراء فكرة شيطنة إيران من أجل تخويف العرب لجعلهم يرون في الغرب وإسرائيل ملاذاً آمناً. فقد شجع الدول الإسلامية والغربية علانية على الدخول في مواجهة شاملة مع إيران حتى يتسنى لإسرائيل أن تستمتع بالسلام والاستقرار. وقال لويس في مقابلة: “عندما تنظر إلى المنطقة، من هم الأعداء المحتملون؟ في المقام الأول، الثورة الإيرانية، والإمبريالية الإيرانية، والثورة الشيعية الإيرانية”.
لقد اعتقد لويس أن إيجاد تفاهم أفضل بين العرب وإسرائيل سيكون في وقت يشعر فيه العرب “بتهديد أكبر”. وقال إن الرئيس المصري الراحل أنور السادات “لم يصنع السلام مع إسرائيل، لأنه كان مقتنعاً فجأة بمزايا القضية الصهيونية. وقد حدث الشيء نفسه مرة أخرى في عدد من المناسبات، والآن يرون إسرائيل كحاجز ضد التهديد الإيراني “.
في وجهة نظره عن الإسلام والعنف، قال لويس إن هناك نظرة سلبية للمسلمين كمجموعة من البرابرة المتعطشين للدماء الذين يختارون بين القرآن والسيف، وإن المسلمين جلبوا معهم الطغيان والظلم. والرأي الآخر يقدم الإسلام كدين للحب والسلام. ويعتقد لويس أن الحقيقة هي في مكان ما بين هذين النقيضين. استخدم لويس مصطلح “الفاشية الإسلامية” للتحدث عن الأصولية الإسلامية، وهو مصطلح أثار انتقادات المسلمين. لذلك عاد إلى استخدام مصطلح “الإسلام المتطرف”.
كتب لويس في مجلة “ذا اتلانتيك” في أيلول – سبتمبر 1990 أن “الإسلام هو واحد من أديان العالم الكبرى. اسمحوا لي أن أكون صريحاً، بصفتي مؤرخاً للإسلام وغير مسلم… لقد جلب الإسلام الراحة وراحة البال إلى ملايين لا حصر لها من الرجال والنساء. لقد أعطى الكرامة والمعنى للحياة المريعة والفقيرة. لقد علم الناس من أعراق مختلفة أن يعيشوا في أخوة وأشخاصاً من عقائد مختلفة أن يعيشوا جنباً إلى جنب في تحمّل معقول. لقد ألهمت الحضارة العظيمة التي عاش فيها آخرون إلى جانب المسلمين حياة إبداعية ومفيدة، والتي، من خلال تحقيقها، أثرت العالم بأسره. لكن الإسلام، كغيره من الديانات الأخرى، عرف أيضاً فترات كان مصدر إلهام لبعض أتباعه مزاجاً من الكراهية والعنف. إنه لسوء حظنا أن جزءًا من العالم الإسلامي .. يمر الآن بمثل هذه الفترة، وأن الكثير والكراهية موجهة ضدنا”.
واعتبر مؤرخ التاريخ العثماني أحد أبرز الناكرين للمجازر الأرمنية إذ رفض وصفها بأنها مجزرة ، وإنما “أعمال مؤسفة أودت بحياة كل من الأتراك والأرمن”. وذكرت الصحافة البريطانية في عام 1997 أن آراء لويس بشأن مقتل مليون أرمني على يد الأتراك عام 1915 لم تكن بمثابة إبادة جماعية وأن محكمة فرنسية قد فرضت عليه غرامة صريحة بعد أن أنكر الإبادة الجماعية. وشرح لويس وجهة نظره في مقابلة قائلاً: “هذه مسألة تعريف، وفي الوقت الحاضر تُستخدم كلمة” إبادة جماعية “بشكل فضفاض للغاية حتى في الحالات التي لا تنطوي على إراقة دماء على الإطلاق. ويمكنني أن أفهم انزعاج أولئك الذين يشعرون بالرفض. لكن في هذه الحالة بالذات، كانت النقطة التي تم تقديمها هي أن مذبحة الأرمن في الإمبراطورية العثمانية كانت هي نفسها التي حدثت لليهود في ألمانيا النازية وهذا كذب واضح. ما حدث للأرمن كان نتيجة تمرد مسلح أرمني ضخم ضد الأتراك، والذي بدأ حتى قبل اندلاع الحرب، واستمر على نطاق أوسع. غادرت أعداد كبيرة من الأرمن، بما في ذلك أفراد من القوات المسلحة، عبر الحدود وانضمت إلى القوات الروسية لغزو تركيا. استولى المتمردون الأرمنيون على مدينة فان واحتلوها لفترة من الوقت يعتزمون تسليمها للغزاة. وكانت هناك حرب العصابات في جميع أنحاء الأناضول. وهذا ما نسميه اليوم الحركة الوطنية للأرمن ضد تركيا. لقد لجأ الأتراك بالتأكيد إلى أساليب شرسة للغاية في صدها. هناك دليل واضح على قرار الحكومة التركية بترحيل السكان الأرمن من المناطق الحساسة، مما يعني بطبيعة الحال كل الأناضول، ولا يشمل ذلك المحافظات العربية التي كانت آنذاك جزءًا من الإمبراطورية العثمانية. لا يوجد دليل على قرار بالمجزرة. على العكس من ذلك، هناك أدلة كثيرة على محاولة منعها، والتي لم تكن ناجحة للغاية. نعم كانت هناك مذابح هائلة، والأرقام غير مؤكدة جداً، لكن رقم المليون غير محتمل. وقد نفذت المجازر من قبل غير النظاميين، من قبل القرويين المحليين كرد فعل على ما تم القيام به ضدهم، وبعدد من الطرق الأخرى. ولكن لكي نجعل هذا (المجزرة)، بالتوازي مع الهولوكوست في ألمانيا، يجب أن تفترض أن يهود ألمانيا كانوا منخرطين في تمرد مسلح ضد الدولة الألمانية، يتعاونون مع الحلفاء ضد ألمانيا”.
نشر لويس نحو 30 كتاباً ومئات المقالات والدراسات، وبخاصة في التاريخ العثماني وتاريخ سوريا في القرون الوسطى وخصوصاً في التاريخ الاجتماعي والاقتصادي للعرب والمسلمين، وذلك استناداً إلى بحثه في الأرشيف العثماني.
* د. هيثم أحمد مزاحم إعلامي وباحث لبناني في مجالات فكرية وفلسفية وسياسية واستراتيجية مختلفة
المصدر: مركز بيروت لدراسات الشرق الأوسط