قبل وصول الرئيس الأميركي دونالد ترامب إلى بريطانيا، شهدت أندية لندن جدلاً سياسياً واسعاً يتعلق بطريقة استقباله بعد تعديل برنامج الزيارة الرسمية. والسبب أن الأجهزة الأمنية تحاشت استقباله في العاصمة تفادياً لاصطدام موكبه بالمظاهرة الضخمة المعدّة ضده.ولكن معارضي سياسة ترامب في بريطانيا لم يتركوا المناسبة تمر من دون تسجيل لقطة معبرة عن مشاعر الغضب حيال الزائر الأميركي. لذلك اقترح مؤسس حملة نظافة البيئة «ليو موراي» صنع دمية مطاطية تشبه وجه ترامب وأطلاقها كالمنطاد فوق ساحة البرلمان. وقد استأذن لتنفيذ هذه «المزحة» عمدة لندن صادق خان، الذي سبق له أن هاجم الرئيس الأميركي، واتهمه بالعنصرية يوم صنّف كل الإسلاميين في قائمة الإرهابيين. وهكذا قيّض لسكان لندن مشاهدة منطاد ضخم يبلغ علوّه حوالى سبعة أمتار جرى تصميمه بواسطة «موراي» الذي حرص على إبراز ملامح ترامب ولونه الأشقر الفاقع.
وهكذا سجلت دائرة البروتوكول لدى القصر الملكي أن دونالد ترامب هو أول رئيس أميركي يقوم بزيارة رسمية للمملكة من دون أن يدخل إلى العاصمة.
رئيسة وزراء بريطانيا تيريزا ماي لم تكن مرتاحة لهذا البرنامج الضيق الذي أعده مدير بروتوكول القصر لرئيس جمهورية الولايات المتحدة. ولكنها تجاهلت الموضوع بسبب انشغالها بأزمة الاستقالات التي شهدت خروج أهم الوزراء من حكومتها، بينهم ديفيد ديفيس وبوريس جونسون وستيف بايكر. علماً أن ترامب أعرب لها عن أسفه، في قمة الحلف الأطلسي، لاستقالة صديقه وشبيهه في الشعر الأشقر المنفوش!
والمعروف أن ترامب دشن دخوله إلى البيت الأبيض باستقبال تيريزا ماي التي حدثته عن العلاقة الخاصة التي أسسها ونستون تشرشل مع صديقه الرئيس فرانكلن روزفلت أثناء الحرب العالمية الثانية. وقالت له إنها حريصة على تطوير تلك العلاقة وتنميتها.
ويبدو أن ترامب كان مستعداً أيضاً لإحياء هذه العلاقة المميزة، بدليل أنه وضع تمثال تشرشل النصفي خلف مكتبه لكي يؤكد إعجابه بهذه الشخصية التاريخية.
قبل أسبوعين توقعت مجلة «تايم» مشاداة كلامية عنيفة، قالت إن ترامب سيكون مصدرها. واستندت المجلة إلى وقائع قمة مجموعة السبع التي عقدت في كندا، والتي شهدت خلافات متواصلة بين الرئيس الأميركي وحلفائه انتهت بسحب توقيعه عن البيان الختامي. كما شهدت أيضاً على الاتهامات التي وجهها سيد البيت الأبيض الى المستشارة الألمانية أنغيلا ميركل، عندما اتهمها برهن ألمانيا إلى روسيا. كل هذا لأنها حققت مشروع توفير الطاقة من روسيا عبر أنبوب يعتبر الأطول بين كل مشاريع الغاز والنفط. وترك وزير خارجيته الجديد مايك بومبيو يفسر أسباب هذا الاحتكار، مدعياً أن ميركل التي عاشت في ألمانيا الشرقية تتقن اللغة الروسية، الأمر الذي سهل لها ظروف التعاون مع بوتين. وكان بهذا الإيحاء يريد أن يقول إن ألمانيا العضو في الحلف الأطلسي هي صديقة الدولة التي اعتدت على نفوذ الحلف عندما ضمّت القرم.
في القمة السابقة، كان ترامب أكثر استفزازاً وصراحة عندما هدد بسحب 35 ألف جندي أميركي من ألمانيا يمثلون نصف العدد الذي تنشره الولايات المتحدة في كل أوروبا.
ومع أنه لم يكرر هذا التهديد في القمة التي عقدت مطلع الأسبوع في بروكسيل، إلا أن حديثه عن مستقبل حلف شمال الأطـــلسي لم يكن مطمئناً بسبب الخلاف على توزيـــع الأعـــباء المــالية على 29 دولة. وكان واضحاً من لهجة الانتقاد التي خاطب بها المستشارة ميركل أنه عازم على تجيير جزء من الالتزامات المالية إلى ألمانيا.
ويُستنتج من التحذير الذي وجهه وزير خارجية ألمانيا إلى الأعضاء أنه كان يريد البحث في الرسوم الأميركية على صادرات المعادن الأوروبية ورفع الرسوم على السيارات المصنعة في دول هذه القارة.
والثابت أنه تراجع عن إثارة هذا الموضوع عندما علم أن ترامب رفع الرسوم الجمركية على المنتجات الصينية من 34 بليون دولار إلى مئتي بليون دولار. وقد شملت هذه القيمة المضافة 818 مادة مصنعة. لهذه الأسباب وسواها اعتبر الرئيس الصيني شي جينبينغ أن القرار الأخير الذي اتخذه الرئيس الأميركي هو بمثابة إعلان حرب تجارية مفتوحة على مختلف الجبهات.
وعلى رغم الصمت المطبق الذي غلف به ترامب قراره الاقتصادي الخطير، إلا أن مستشار الأمن القومي في البيت الأبيض جون بولتون قدم تفاسير عدة لتبرير نزق معلمه.
وجاء في قائمة تلك التفاسير ما قدمته أجهزة الاستخبارات من معلومات حول المساعي الحثيثة التي تبذلها بكين بهدف تقويض الاتفاق مع الزعيم الكوري الشمالي كيم جونغ أون. أي الاتفاق الذي عقده ترامب وكيم في سنغافورة.
على صعيد آخر، لاحظت واشنطن أن نشاط بكين الخارجي قد تضاعف في منطقة الخليج العربي، الأمر الذي انتهى بتوسيع حلقة منتدى التعاون العربي – الصيني. ولقد شجع الصين على نقل جهودها إلى الخليج العربي وشمال أفريقيا حجم التجارة المتبادلة بحيث وصل السنة الماضية إلى رقم مذهل بلغ 192 بليون دولار. وهذا ما اقتضى أمير الكويت الشيخ صباح الأحمد السفر إلى بكين الأسبوع الماضي، حيث استقبله الرئيس الصيني بحفاوة وترحاب، مؤكداً له أنه سيولي القضية الفلسطينية اهتماماً خاصاً، وأن الخلاف بين دول مجلس التعاون الخليجي يجب أن يزول.
في زحمة هذه المتغيرات، تنصب اهتمامات الدول الأوروبية والعربية على نتائج القمة التي سيعقدها الرئيس ترامب مع نظيره الروسي الرئيس فلاديمير بوتين في هلسنكي (فنلندا). ويرى فيها المعلقون أفقاً لتدشين مرحلة جديدة، أو لتثبيت مرحلة سابقة، كما يقول الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون. وحجته أن العلاقات المتينة بين الرئيسين لم تضعف، وأن التنسيق بينهما لم ينقطع. وأكبر دليل على ذلك انتقاد ترامب قرار الكونغرس فرض عقوبات على الحكومة الروسية بسبب ضمها لشبه جزيرة القرم الأوكرانية.
وقد هاجم الرئيس الأميركي يومها مشروع قانون فرض العقوبات، إضافة الى البند الذي يسمح للكونغرس بتجاوز حق النقض (الفيتو) الرئاسي.
والملفت أن ترامب أرسل إلى موسكو مبعوثاً خاصاً أمضى حياته في مهاجمة موسكو وحكّام موسكو. أي أنه أرسل جون بولتون، مستشار الأمن القومي الجديد كبادرة حسن نية لغسل كل الذنوب السابقة. ويعترف ستيف بانون، مستشار الرئيس الأميركي السابق، أن ترامب أصرّ على تشذيب شارب بولتون قبل تعيينه لأنه كان يرى فيه مظهراً عدائياً لا يليق بموظف في البيت الأبيض.
وحدث أثناء استقبال بولتون في الكرملين أن ضحك بوتين طويلاً لرؤية الشارب المقلم لعدو سابق جاء ليستأذنه بلقاء معلمه في هلسنكي.
ولكن، ما هي حدود التوقعات في قمة ثنائية وصفتها الصحف الأميركية بأنها تشبه قمة غورباتشيف – ريغان حول المدفأة في جنيف؟ علماً أن جنيف كانت تقع في منتصف الطريق بين واشنطن وموسكو… في حين تقع هلسنكي داخل حدود النفوذ الروسي.
زيارة رئيس الحكومة الأسرائيلية بنيامين نتانياهو موسكو عززت القناعة بأن وضع إسرائيل سيكون جزءاً من محادثات هلسنكي. كذلك التقى الرئيس الروسي علي أكبر ولايتي، مستشار المرشد الأعلى، وسلمه رسالتين مهمتين من المرشد الأعلى والرئيس حسن روحاني.
ومع أن طهران لم تعلن عن مضمون الرسالتين، إلا أنه ليس من الصعب اكتشاف مهمة الزائر الإيراني الكبير، وخلوته مع بوتين قبل ثلاثة أيام من قمة هلسنكي. ومن هذه المؤشرات السياسية يتبين أن إسرائيل وإيران ستكونان على طاولة المفاوضات، بعدما حظي بوتين بمواقف البلدين.
وفي معلومات إضافية ما ينبئ عن وجود ملف يتعلق بسورية ومستقبل بشار الأسد. ويبدو أن هناك نشاطاً عسكرياً سورياً انفجر قرب القنيطرة، الأمر الذي اضطر الجيش السوري إلى استخدام السلاح الثقيل المحرم وفق اتفاق الفصل سنة 1974، أي سلاح الدبابات.
ويظهر أن زيارة نتانياهو موسكو كانت تتعلق بهذه الأحداث، وبمحاولة دخول الجيش السوري إلى المثلث الحدودي مع الأردن. وهذا، في نظره، يستدعي إعادة المراقبين التابعين للأمم المتحدة الذين غادروا الأراضي السورية المحتلة قبل أربع سنوات هرباً من قذائف الميلشيات المحلية. كما يستدعي بالمقابل إحياء اتفاق الفصل، شرط أن يصبح كل أفراد الجيش السوري النظامي تحت قيادة الرئيس بشار الأسد!
* كاتب وصحافي لبناني