صدر قبل يومين تصريحان مهمان للغاية بشأن المواجهة الأميركية الإيرانية ، و العقوبات الأميركية على إيران. الأول لوزير الخارجية الإيراني جواد محمد ظريف ، و الثاني لرئيس الوزراء العراقي حيدر العبادي. التصريحان يتشابهان حد التطابق فيما يخص التفكير العقلاني و (الواقعية) السياسية وتحمل المسؤولية والابتعاد عن الشعاراتية ، في التعامل مع المواجهة الأميركية الإيرانية. ظريف قال : ” أعدّت أميركا غرفة عمليات حرب ضد إيران. ونحن لا يمكن أن نُستدرج إلى مواجهة مع أميركا، بالسقوط في فخّ غرفة عمليات الحرب واللعب على جبهة قتال.” العبادي قال : ” من حيث المبدأ نحن ضد العقوبات في المنطقة. الحصار والعقوبات تدمر المجتمعات ولا تضعف الأنظمة.” وأضاف ”نعتبرها خطأ جوهريا واستراتيجيا وغير صحيحة لكن سنلتزم بها لحماية مصالح شعبنا. لا نتفاعل معها ولا نتعاطف معها ولكن نلتزم بها.” الوزير الإيراني يرفض استدراج بلاده إلى المواجهة مع أميركا ، لأنه يدرك أن ميزان القوة العسكرية يميل لصالح أميركا. هو يفعل ذلك لحماية مصالح بلاده ، و يريد أن يجنب شعبه الإيراني خسائرا في الأرواح. والشعار الخالد الذي ظلت الجمهورية الإيرانية ترفعه : الموت لأميركا ؟ لماذا لا يستعجل القادة الإيرانيون موت أميركا ، وها هي أميركا تبحث الآن بنفسها عن الموت على أياديهم ؟ لأن الشعارات الثورية شيء والصواريخ شيء آخر ؛ الشعارات (ما عليها كمرك) ، و قد يدخل ترديدها الفرح لقلوب مئات وربما آلاف الإيرانيين ، ويلهب حماسهم ، ويجعلهم يتقافزون فرحا بالشوارع ، أما الصواريخ إذا تساقطت على رؤوس الإيرانيين فثمنها دمار العباد والبلاد. يفسر الرئيس الإيراني حسن روحاني (الثورية) بأنها فن تقليل أعداء إيران وكسب المزيد من الأصدقاء ، وعزل أميركا كلما كان ذلك ممكنا. الوزير ظريف أيقن أنه حان الآن وقت التصريحات المنضبطة والحسابات الدقيقة المرسومة بالسنتمتر الواحد. الآن حان وقت تحمل المسؤولية عن أرواح وممتلكات ملايين الإيرانيين. و هذه مسؤولية عظمى ، ولهذا بدأ المسؤولون الإيرانيون يحسبون الأمور بدقة ، ويطلقون تصريحات عقلانية هادئة ، بعيدا عن العواطف ، وبعيدا عن الضجيج الثوري و نبرة التحدي الصاخبة التي عرفوا بها. من ناحيته ، العبادي قال في تصريحه ما قاله الوزير الإيراني ، بالتمام. الفرق الوحيد أن العبادي تحدث بالعربية وظريف بالفارسية. العبادي قال إن العقوبات خطأ جوهري استراتيجي وغير صحيحة ، لكن العراق يلتزم بها (حماية لمصالح الشعب العراقي) ، وشرح الرجل الأسباب والمبررات. مختصر كلام العبادي : نرفض أن يستدرجنا أحد الى الحرب ضد إيران ، ونرفض استدراجنا الى حرب ضد أميركا. الكفر أو حتى أين الخطأ البسيط فيما قاله العبادي حتى هاجمه المهاجمون ؟ الكفر يكمن في كلمة ( نلتزم). المهاجمون يريدون من العبادي أن يقول : لن نلتزم بالعقوبات الأميركية ولتضرب أميركا رأسها بالحائط ولتفعل ما تشاء. إنهم ظريفون أكثر من ظريف ، وروحانيون أكثر من روحاني ، و خامنائيون أكثر من خامنئي. وهولاء الذين هاجموا العبادي يعرفون ، يعرفون جيدا ، يعرفون أكثر من غيرهم ، أن العراق لا يملك قراره السيادي الوطني بعد. هولاء ، وبعض منهم اعتبر أن ما قاله العبادي (يرقى إلى مستوى الفضيحة) ، وبعض منهم يتبوأ مناصب حكومية ؛ هولاء يعرفون أن (البيت) الذي يجلسون فيه ومن قصوره يصرحون ، أي عراق ما بعد 2003 بحكومته وبعمليته السياسية وبتسليحه وبنوع اقتصاده الريعي الأستهلاكي وبديونه هو ، بيت بناه ( المقاول ) الأميركي ، على طريقة (كرسته وعمل) ، وما يزال هذا المقاول يملك مفتاح البيت بيده ، ويرسل على مدار أشهر السنة وكيله (بريت ماكورك) لتفقد أحوال (القادة) ، الذي يسكنون في الطوابق العليا ، وفي مقدمتهم العبادي و الذين هاجموا العبادي. أما الإيراني فهو ( أسطه ) اضطر المقاول الأميركي للأستعانة بخدماته في بداية العمل لأسباب خارجة عن قدرته ، رغم العداء الجوهري بينهما ، فوافق الإيراني ببراغماتية يتقنها جيدا ، و بسرعة ، و أختار لمساعدته (خلفات) عراقيين ، بعضهم تدرب على يديه من الألف إلى الياء ، فأجزل لهم العطاء وأغدقهم بالهدايا والأكراميات ، بل ربط مصيرهم بمصيره. الآن بعدما تيقن المقاول الأميركي أن الأسطه الإيراني (ابتلع) العراق و يصر أن يستأثر وحده بالأرباح ، فأنه راح يطالب بالأستيلاء على النفط العراقي ، تعويضا عن خسائره. ومن جانبه ، لم يكتف الإيراني بما حصده من أرباح بمليارات الدولارات من السوق العراقية منذ عام 2003 ، إنما بدأ يطالب بتعويضات لحروب شنها صدام. فقد طالب نائب رئيس مجلس الشورى محمود صادقي ، الحكومة العراقية بدفع نحو 1100 مليار دولار كتعويضات وخسائر حرب نظام صدام حسين. وذهبت نائبة الرئيس الإيراني ، معصومة ابتكار ، أبعد مما طالب به صادقي. فلم تطالب ابتكار العراق بدفع تعويضات عن الحرب العراقية الإيرانية ، فقط ، وإنما أيضا عن حرب الكويت (والأضرار التي لحقت بالخليج). هذه التعويضات كانت إيران (نستها) طوال هذه الفترة ، لكنها تذكرتها فور تصريح العبادي عن التزامه بتطبيق العقوبات الإيرانية دفاعا عن مصالح الشعب العراقي. إنه نفس المنطق الأميركي الأستئثاري الساعي لليهمنة وبسط النفوذ ، واحتلاب الأرباح. يقول المفكر اللبناني الشيعي ، الراحل السيد هاني فحص : ” الإيراني استيلائي، لا يُحب أن يكون له دور، وإنما نفوذ. الدور يعني الشراكة، الدور يشترط الآخر، والنفوذ استتباع واستلحاق، زبائني ريعي يشتري الرقبة والقرار، يهمّه الوصول إلى هدفه، هو براغماتي جداً ومسكون بهاجس الإمبراطورية التي يريد استعادتها بمنطق القوة الفارسية أو الشيعية أو الإيرانية مقابل الكثرة العربية ” (نقلا من مقال مصطفى فحص : إيران … عقدة المكان وعقيدته. صحيفة الحياة في 20 سبتمبر 2017)
كان على الذين هاجموا تصريح العبادي أن يقتصر كلامهم على لاعدالة العقوبات وظلمها وتعسفها وتأثيرها المدمر على الفئات الفقيرة من الشعب الإيراني ، وهي أمور لا يناقش كثيرون صحتها ، لا أن يتحدثوا عن ” رد الجميل لإيران ، والوفاء لدولة وقفت معنا في خندق واحد.) إيران لم تقف مع العراق في خندق واحد. إيران وقفت مع مصالحها ونفوذها داخل العراق. إيران وقفت مع إيران داخل الخندق العراقي ، ولم تقف مع أي أحد. إيران ترفض أن تتخندق مع أحد ، و إذا وافقت فعلى الآخر المتخندق معها ، أن يقف وراءها لاستلام أوامرها ، لا أن يقف ندا لها. قال الرئيس حسن روحاني ، حرفيا : ” إن أيا من العراق وسورية وشمال أفريقيا ومنطقة الخليج الفارسي لا يستطيع اتخاذ إجراء حاسم من دون إيران ورأيها. ” وقال ، حرفيا ، علي لاريجاني رئيس مجلس الشورى ، و المشرف على الدعم المالي للجماعات العراقية المرتبطة بإيران ، في 62/6/2018 أمام الملتقى العام للسلطة القضائية ، وهو يشرخ أسباب الدعم الإيراني للعراق وسوريا ، ويرد على الإيرانيين الذين يعتبرون هذا الدعم تبذيرا للأموال : ” ان هذا الدعم والنفقات الكبيرة التي بذلناها جاءت بهدف صون أمن البلاد (إيران) لأن الجماعات الإرهابية التي أوجدتها أميركا كانت تهدف إلى زعزعة الأمن في إيران ولكن الجمهورية الإسلامية الإيرانية عالجت الموقف بيقظة ومن هنا لا ينبغي أن تفسر الأمور في هذا المجال بشكل خاطئ محليا. هذه حقيقة ، وهي حقيقة يعرفها الجميع بما في ذلك الذين هاجموا العبادي. لكن هناك حقيقة آخرى يعرفها ، أيضا ، الجميع ، لكن لا يسبر غورها ولا يعرف وطأتها ولا يدرك تداعياتها التراجيدية ألا هولاء المهاجمون وحدهم. هولاء الذين يريدون زج العراق في هذه اللعبة القاتلة لا يدافعون عن الشعب الإيراني ، ولا عن شعبهم العراقي. هولاء يدافعون عن امتيازاتهم ، وهم خائفون على مصائرهم الشخصية. إنهم يعرفون أنهم يواجهون حربا وجودية ، تخصهم وحدهم دون جميع العراقيين : أن يكونوا أو لا يكونوا. هولاء انتحاريون ، لكنهم لا يريدون أن ينتحروا وحدهم ، وأنما أن ينحروا ملايين العراقيين. قبل أيام قال وزير الخارجية الإيراني ، وهو يخاطب الإيرانيين المعارضين للنظام : ” هناك اليوم مؤيدون ومعارضون للدولة. لكننا جميعا ركاب سفينة واحدة. ” وقال إن الأعداء عزموا على ” تدمير وجود بلد أسمه ايران.” بالطبع ، ما قاله الوزير غير دقيق. الوزير يعني النظام السياسي القائم حاليا في إيران ، وليس البلد إيران ، لأن البلدان باقية لا تزول من الوجود ، التي تزول هي الأنظمة. والسفينة التي يتحدث عنها الوزير لا يركبها هو وقادة النظام الإيراني فقط ، وإنما يركبها ، أيضا ، ركاب غير إيرانيين ، بينهم عراقيون أكثر عشقا للنظام الإيراني من ظريف نفسه. هولاء هم الذين يدفعون العبادي للدخول في معركة خاسرة مع الأميركيين ، ولا يهمهم أن عاد الشعب العراقي لأيام الحصار الأسود الرهيب. المهم عندهم ، أن يظلوا ويظل ركاب سفينة ظريف على قيد الحياة. عندما كانت قادسية صدام المشؤومة تحصد أرواح الشباب العراقي وتنشر الخراب في العراق ، كان آل سعود وآل الخليج كلهم يدافعون عن بلدانهم حتى آخر شاب عراقي ، وحتى آخر دينار عراقي. الآن ، يريد بعض العراقيين الدفاع عن الجمهورية الإسلامية حتى آخر شاب عراقي ، وحتى آخر دينار عراقي.
لم يتعلم الإنسان أنه في الإمكان الوصول إلى اتفاق من دون إشعال حرب في سبيل الوصول إلى السلام، يسخر هواة الدماء والجثث من غاندي ومانديلا. آلة الحرب تدرّ مالاً وأوسمة وجاهاً. ويذهب الملايين إلى النسيان، كما هي عادة البشر منذ الأزل...