من بين عناصر أخرى، اضطلعت شبكات التواصل الاجتماعي بدور أساسي في تشكيل رأي عام عربي وعالمي رافض لجريمة القتل البشعة التي أسقطت الصحافي السعودي جمال خاشقجي ومصر على المطالبة بالحقيقة والعدالة. لم تفلح اللجان الإلكترونية التابعة للحكومة السعودية ولحلفائها الإقليميين في السيطرة على «مسألة خاشقجي» في الفضاء الافتراضي، لم تفلح لا في مرحلة الإنكار السعودي لجريمة القتل ولا بعد أن بدأت الاعترافات الرسمية المبتورة تتواتر.
لم تنتصر الأخبار الزائفة ولا أنصاف الحقائق في مواجهة رأي عام عربي وعالمي يدرك أن بشاعة الجريمة وداعشية تفاصيلها لا يتناسب معها غير تداول المعلومات الصحيحة والإسناد عليها للضغط من أجل إدانة المسؤولين الفعليين عن القتل (أي من أمر به). أخفق خدمة السلاطين في السعودية وفي بلاط الحكومات الإقليمية المتحالفة معها في الترويج لإفك إنكار جريمة القتل وفرض جدار من الصمت حولها، أخفقوا في ذلك أولا ثم أخفقوا ثانيا في إسباغ شيء من المصداقية على الاعترافات المبتورة وكان تقلبهم من الإنكار حين أنكرت الحكومات إلى الاعتراف المبتور حين اعترف ولاة الأمور مدعاة للسخرية العادلة منهم، وأخفقوا ثالثا في صرف الناس والمتعاملين على شبكات التواصل الاجتماعي عن الاهتمام «بمسألة خاشقجي» عبر توظيف الحياة الشخصية لخاشقجي وماضي ولاءاته السياسية لتجريده الإجرامي من الحق في الحياة وللتبرير غير المباشر لقتله.
أخفقوا في كل ذلك لأن الجريمة الداعشية التي أنزلت بشخص تداولت المواقع وجهه وعرفت بالخلفيات الإنسانية لذهابه إلى القنصلية السعودية في إسطنبول حيث غدر به يبدو أنها تجاوزت في الصدمة التي أحدثتها للضمائر المقادير التي اعتاد عليها الناس فيما خص الممارسات الإنكارية للحكومات العربية، والإفك الذي يروجه خدمة السلاطين لتبرير جرائمها. في المقابل، لم يرتب القتل المتواصل للأطفال والمدنيين في اليمن بسبب الحرب السعودية ـ الإماراتية عليه وبسبب استباحة الحكومتين لأرضه لمواجهة النفوذ الإيراني ردة فعل مشابهة في الفضاء الافتراضي ولم يدفع إلى بلورة رأي عام عربي وعالمي يصر على إنهاء الحرب الظالمة. ضحايا حرب اليمن هم أيضا أناس لهم حق في الحياة الآمنة، وجرائم المتورطين في الحرب لا تقل بشاعة عن قتل خاشقجي، بل أن وحشية ما ينزل بأهل اليمن له طبيعة جماعية ينبغي أن تفزع كل الضمائر الحية.
وللاختلاف على شبكات التواصل الاجتماعي بين إصرار على الحقيقة والعدالة في «مسألة خاشقجي» وبين ردة فعل هادئة تجاه الحرب على اليمن على الرغم من تطابق المسؤول عن القتل هنا وعن الحرب هناك، لهذا الاختلاف أسباب متنوعة تستحق الرصد.
أولا، يبدو أن المتعاملين على شبكات التواصل الاجتماعي حين يهتمون بانتهاكات حقوق الإنسان يتعاطفون بصورة أسرع وينتقلون بإصرار بين مراحل البحث عن المعلومات الصحيحة وتداولها وبناء الرأي وتبني الموقف الواضح والإدانة القاطعة والمطالبة بمحاسبة المتورطين حين يتعلق الانتهاك المعني بفرد واحد أو مجموعة محدودة العدد من الأفراد يسهل تقنيا نشر صورهم وسرد حكاياتهم وتفاصيل الظلم الذي وقعوا ضحايا له بكلمات قليلة. أما عندما يكون الضحية شعبا بأكمله، إن في اليمن أو في سوريا حيث يمارس نظام الأسد إبادته الممنهجة، فيغيب التعاطف السريع لكثرة الوجوه والتفاصيل وتداخلها.
ثانيا، يبدو أن سقوط فرد أو مجموعة محدودة العدد من الأفراد ضحايا لانتهاكات حقوق الإنسان يحفز المتعاملين على شبكات التواصل الاجتماعي على المطالبة بالعدالة للضحايا تأسيسا على القناعة بإمكانية تحقيقها في الجرائم الفردية مقارنة بشبه استحالتها في حالة الجرائم الجماعية التي اعتاد الرأي العام العربي والعالمي على إزاحتها إلى الهيئات الدولية وتركها هناك حتى يخرس العجز الأصوات التي تدعو إلى العدالة إن للشعب اليمني أو السوري أو الفلسطيني أو غيرهم من شعوب الأرض المقهورة.
ثالثا، يسهل نسبيا على المتعاملين على شبكات التواصل الاجتماعي دحض ممارسات الحكومات العربية الإنكارية وتفنيد اعترافاتها المبتورة عندما تتسم تلك الممارسات والاعترافات بمنافاة المنطق والعقل وتنضح كافة تفاصيلها بالتسييس وبأغراض خدمة السلاطين، وعندما تقف في مقارعتها معلومات وحقائق واضحة تنشرها مصادر إعلامية موثوق في موضوعيتها وغياب التسييس عنها. ذلك تحديدا هو الدور الذي لعبته كبريات الصحف الأمريكية والأوروبية في «مسألة خاشقجي» منذ وقعت وإلى اليوم ولم تضطلع به فيما خص مأساة الأطفال والمدنيين اليمنيين ولا فيما خص الشعب السوري سوى لفترات جد محدودة زمنيا ومع استعداد دائم لإخراجها بعيدا عن دائرة «التغطية» حين تتغير أجندة الأحداث السياسية.
رابعا، يظل تنوع وتعدد الأصوات في الفضاء الافتراضي، ومهما كثر تواجد اللجان الإلكترونية (أو الذباب الإلكتروني كما يسميه البعض) ومهما أقرت حكومات المستبدين من قوانين قمعية للقضاء على حرية التعبير عن الرأي، مقربا لشبكات التواصل الاجتماعي وللمتعاملين عليها من احتمالية تداول المعلومات الصحيحة والحقائق الموثقة حين تتوافر إذا ما قورن الأمر بوسائل الإعلام التقليدي التي تدجنها في بلاد العرب الحكومات المستبدة وأموال النخب المتحالفة معها.