انشغلت وسائل الإعلام العراقية ومنصات التواصل الاجتماعي بالسخرية من تصريحات أدلى بها رئيس الحكومة عادل عبد المهدي، عن اكتشاف خط جديد لتهريب أطنان من المواد المخدرة “أرجنتينية الصنع” تصل إلى العراق من خلال منطقة “عرسال” على الحدود اللبنانية ـ السورية.
كان من المنتظر شعبيا أن يتحدث عبد المهدي عن نهر المخدرات المتدفق منذ عقود من إيران إلى العراق الذي تحول من مجرد ممر لتجارة المخدرات الأفغانية والإيرانية باتجاه دول الخليج، إلى سوق لها، وهذه الحقيقية بديهية ليست قابلة للتمويه أو التغاضي، بل إن مؤسسات أمنية إيرانية، ومجموعات مسلحة عراقية، وشخصيات رسمية في الجانبين متورطة في هذه التجارة الخطيرة، والصحافة العراقية على رغم القيود التي تواجهها لم تتوقف يوما عن التحقيق في هذه القضية ونشر الإعلانات الحكومية المتواصلة عن كشف شحنات مخدرات إيرانية واعتقال تجار.إن تأمين تمويل قوى شبه رسمية في العراق من خلال تجارة المخدرات، ليس خبرا مفاجئا
والحالة الرسمية العراقية، في قضية تجارة المخدرات، تشبه إلى حد بعيد تاريخ التعاطي الرسمي المكسيكي مع تجارة المخدرات مع الولايات المتحدة، حيث تنتشر المناورات، والإعلانات التمويهية عن ضبط شحنات تهريب واعتقال مهربين، كنوع من إثبات النشاط، فيما التجارة العظمى تتم عبر منافذ أكبر من قدرة السلطات الأمنية على مواجهتها.
لكن ما ذكره عبد المهدي مؤخرا عن خط عرسال ـ بغداد ليس مزحة، بل هو حقيقة مرعبة، لها أوليات في شحنة هائلة من مواد الهروين، تم نقلها عبر مليشيات مسلحة إلى العراق قادمة من لبنان ووصلت إلى محافظة كربلاء، وشحنة أخرى تورط فيها ابن أحد المحافظين، وثالثة اكتشفت في الأنبار، حيث سمحت فوضى المعارك مع تنظيم “داعش” في العراق وسوريا، لمجموعات مسلحة بافتتاح خط جديد لتجارة المخدرات، لا يقل خطورة عن الخط الإيراني، وإن كان الفاعلون فيه غير مختلفين كثيرا.
الحقيقة التي طرحها عبد المهدي، تحتاج إلى وقفة منهجية، أكثر من حاجتها إلى السخرية، فوصول شحنات مخدرات، من الأرجنتين، إلى العراق، يعني أن شبكات تجارة المخدرات الدولية قد وضعت العراق المضطرب أمنيا والمتنازع على مراكز النفوذ السياسي والجغرافي فيه كسوق جديد في قلب الشرق الأوسط، بإمكانه استهلاك هذه الأطنان من السموم المصنعة مختبريا.
وبالتأكيد أن هذا الخبر يعني، أن تجارة الحشيشة، والأفيون، والترياق الأفغانية والإيرانية، لم تجد لها السوق المربح والسريع الذي وجدته مواد أخرى مثل الهيروين والكرستال.
التعاطي مع الاعتراف العراقي الرسمي بخط سير المخدرات الجديد إلى أراضيه، يستدعي وقفة عميقة مع الجهات النافذة في ملف ضبط الحدود، ليس فقط على مستوى المؤسسات الرسمية من شرطة المنافذ الحدودية، التي لا تقوى على فرض القانون، بل بالدرجة الأساس على المجموعات المسلحة العراقية واللبنانية التي عليها الاعتراف اليوم وليس في الغد، بأنها الجهة التي تدور حولها الشبهات في تسهيل هذه التجارة، وعليها أن تدافع عن نفسها من خلال الكشف عن الحقيقة.الحقيقة التي طرحها عبد المهدي، تحتاج إلى وقفة منهجية، أكثر من حاجتها إلى السخرية
إن تأمين تمويل قوى شبه رسمية في العراق من خلال تجارة المخدرات، ليس خبرا مفاجئا، كما ليس مفاجئا أن تعجز السلطات العراقية عن مواجهة الحقائق وتوجيه اتهامات إلى القوى العراقية أو الإقليمية المتورطة، لكن ما هو مفاجئ بالفعل، أن تتعاطى وسائل الإعلام، والقوى السياسية مع تصريحات عبد المهدي كمزحة، وأن تظهر الجهات الرسمية جهلا في التفريق بين الأنواع المختلفة من المخدرات، وتلك الأكثر فتكا من سواها.
ليست مزحة، فأطنان من الكريستال والهيروين، أقوى من قنبلة نووية في تأثيرها، وهي تفوق تجارب الحشيشة التقليدية التي لم تجد لها قبولا كبيرا لدى الشباب في العراق رغم انفتاح الحدود أمام تجارتها ورخص أسعارها وانعدام الرقابة الرسمية على حركتها من الحدود العراقية ـ الإيرانية إلى الحدود العراقية السعودية.
المزحة الوحيدة.. أن القوى الأمنية العراقية والشخصيات الدينية والعشائرية والأحزاب الاسلامية، تكرس جلّ اهتمامها لتحريم وتجريم بيع المشروبات الكحولية في مدن العراق، فيما أن المعلومات باتت تكشف أن مادة الكرستال بدأت تنتج محليا في معامل صغيرة تنتشر يوما بعد آخر!
*( المقال يعبّر عن وجهة نظر كاتبه ولا تتبنى الصفحة ما ورد فيه ونقل عن موقع ( الحرة) المنشور فيها بتاريخ 9 /آذار/2019 )