شهر رمضان الكريم هو شهر البركة. وهو شهر العمل والإنتاج. إن أحب الشهور إلى قلبي هو شهر رمضان المبارك. وهو أكثر الشهور التي أحب العمل فيها أكثر من أي شهر في العام.
وفي البداية، فإنني أخلد للنوم مبكرا دون سحور. وأذهب إلى مكتبي في الصباح الباكر. وأظل أعمل وأكتب إلى الثالثة عصرا، موعد انصرافي اليومي من مكتبي. وبعد ذلك أذهب لممارسة الرياضة ثم أتناول وجبة الإفطار. وبعد ذلك، أقابل كل الأصدقاء الذين لم أقابلهم منذ فترة طويلة. وأحب أن أشاهد كثيرا من المظاهر الرمضانية في سيدنا الحسين. وفي رمضان هذا العام، سوف أذهب كي أشاهد مسرحية «الملك لير» بطولة صديقي الفنان العالمي أورسون ويلز مصر النجم العبقري يحيى الفخراني. وفي الوقت نفسه هو شهر التقرب إلى الله سبحانه وتعالى.
وأحب أن أذهب إلى المكان الذي قضيت فيه أجمل وأحب شهور رمضان إلى نفسي حيث أذوب في روحانيات هذا الشهر الكريم. وأذكر أنني، في قريتي الصغيرة الجميلة «العبيدية»، بمحافظة دمياط، خلال هذا الشهر الكريم، كنا ننظم دورات رمضانية جميلة. وكنا نقضي أغلب أوقات النهار في قراءة الكتب الموجودة بمكتبة المدرسة. وكانت بالمكتبة كتب كثيرة تجمع بين الرواية والأدب والعلم، أو كنا نقرأ من خلال مكتبة يمتلكها اثنان من أهل بلدنا المثقفين؛ وهما «صبري القزاز» و«محمد حافظ». وقبل الإفطار مباشرة، كنا نذهب إلى منازلنا لتناول الإفطار.
وبعد الصلاة، كنا نجتمع معا أمام الراديو الوحيد الذي كان موجودا بالقرية؛ كي نسمع مسلسل «ألف ليلة وليلة». وبعد صلاة العشاء والتراويح، كنا نذهب إلى حكّاء القرية «عم الدسوقي» الذي كان يحكي لنا قصصا لطيفة بأسلوب ساحر عن «سيف بن ذي يزن» و«عنترة بن شداد» وغيرها. وكان، رحمه الله، ينمي فينا حب المغامرة والقوة. وكنا نطوف القرية حاملين فوانيس رمضان المضاءة بالشموع. وكنا نغني معا الأغاني الجميلة فرحة منا وترحيبا بقدوم الشهر الكريم.
وكان من عادة والدي، رحمة الله عليه، أن يصحبني معه إلى المضايف وقت السحور. وكانت أغلب العائلات تجتمع في صالون المنزل. وكان الجميع ينصت إلى قراءة القرآن الكريم. وكنا نتحدث عن أحوال قريتنا الجميلة. وكنا نأكل الكنافة والقطايف وقت السحور. وكنا أيضا نقوم بإخراج وتمثيل مسرحيات وطنية وكوميدية في ميدان القرية. ومع الأسف، قد اختفت أغلب هذه المظاهر الجميلة من القرية الآن.
أما في مرحلة الشباب، فقد كان لقضاء شهر رمضان طعم آخر يختلف عن طعمه في القرية؛ فكنا نفطر يوميا بالقرب من مسجد، حفيد المصطفى صلى الله عليه وسلم؛ «سيدنا الحسين»، رضي الله عنه وأرضاه. وكنا، بعد صلاة العشاء، نذهب إلى مشاهدة المسرحيات التي كانت تعرضها مسارح وزارة الثقافة. وكنا نجلس على المقاهي نتسامر إلى وقت السحور. وقد قضيت شهر رمضان المعظم في كثير من الأماكن التي عملت بها مفتشا للآثار سواء في «تونا الجبل» بمصر الوسطى، أو في «وادي الملوك» في الأقصر. وكنا مجموعة من مفتشي الآثار نفطر معا. وكنا نذهب إلى فندق الشيخ «علي عبد الرسول». وكنا نسمع منه حكايات عن كشف مقبرة «توت عنخ آمون»، وعن عمه الشهير «حسين عبد الرسول» الذي كشف بعض المقابر، وكذلك عن بعض الأسرار الخاصة بمقبرة الملك «سيتي الأول»، والد الملك رمسيس الثاني.
وعشت في أميركا سبع سنوات للحصول على درجة الدكتوراه في الآثار المصرية القديمة وتاريخ وآثار الشرق الأدنى القديم من جامعة بنسلفانيا. وقبل حضور زوجتي وأولادي إلى أميركا، كنت أفطر مع صديقي «عصام» اللبناني ومع صديقتي «نسرين» المسيحية اللبنانية. وكنا ننظم مسيرات رمضانية، بعد الحصول على تصريح من الشرطة، للاحتجاج على تصرفات إسرائيل العدوانية ضد أهلنا في أرض فلسطين العربية المحتلة. وكنا ننظم إفطارا جماعيا للطلاب الدارسين والمهاجرين المصريين. وكان كل هذا يثير إعجاب الأصدقاء الأميركيين الذين كانوا يؤمنون أن شهر «رمضان» يعلمنا الصبر، وكنا فيه نعطي الصدقة للفقير. وكان بعضهم يجرب الصوم معنا في هذا الشهر الكريم. وكان صوم الشهير الفضيل يثير إعجابهم وتقديرهم.
وسوف يظل شهر رمضان هو شهر العمل والعبادة. وسوف تظل مدينة «القاهرة»، مدينة ألف ليلة وليلة، هي أجمل مدن وعواصم الدنيا التي يتم فيها الصوم والتمتع بالشهر الكريم، على الرغم من أن له مذاقا جميلا في مدن «دمشق»، و«بغداد»، و«الرياض»، وفي كل المدن العربية العزيزة علينا جميعا.
ورغم ذلك فقد أبلغني صديقي السفير أسامة نقلي، سفير خادم الحرمين بالقاهرة، أنه يعشق القاهرة في رمضان ويعشق أكثر الصيام في مكة بين الأهل والأحباب وقضاء الأيام العشرة الأخيرة في الحرم الملكي.
وكل عام وأنتم بخير… ورمضان كريم.
- د.زاهي حواس وزير الدولة لشئون الاثار المصرية السابق، وشغل سابقاً منصب مدير آثار الجيزة