في التاسع من تموز/ يوليو، قرر “مجلس الدولة” التركي إبطال قرار وزاري صدر عام 1934 كان قد صنّف “آيا صوفيا” متحفاً. وجاء هذا القرار من قبل المحكمة العليا في أعقاب حملة مكثفة قام بها مكتب الرئيس رجب طيب أردوغان لتحويل هذا المعلم الأثري في اسطنبول الذي يرجع تاريخه إلى حوالي 1500 عام إلى مسجد. وسمح التعديل الدستوري الذي أُجري في عام 2010 لأردوغان بتعيين غالبية قضاة “المجلس” الحاليين، لذلك لم يكن القرار مفاجئاً.
ومن بين جملة أسباب أخرى، يرغب أردوغان على ما يبدو في المضي قدماً بعملية التحويل من أجل عكس مسار التدهور المستمر الذي تشهده قاعدته الشعبية حالياً. ومع ذلك، فمن غير المرجح أن يمنحه هذا القرار أكثر من دفعة مؤقتة من الشعبية. وما سيفعله بالتأكيد هو تقويض صورة تركيا على الساحة الدولية كمجتمع منفتح ذو أغلبية مسلمة يعيش في سلام مع تراثه المسيحي.
من كنيسة إلى مسجد إلى متحف وإلى مسجد مجدداً
بنى الإمبراطور البيزنطي يوستنيانوس الأول “آيا صوفيا” ككاتدرائية مسيحية في عام 537. وفي عام 1453، حوّلها السلطان العثماني محمد الثاني إلى مسجد بعد فترة قصيرة من انتزاعه المدينة من البيزنطيين. وفي عام 1934، وبعد تفكك السلطنة العثمانية، حوّلت حكومة مصطفى كمال أتاتورك المبنى إلى متحف. وبصفته مؤسس تركيا الحديثة، كان أتاتورك يعتقد أن فتح المبنى لجميع الناس سيدعم ثورته العلمانية ويساهم في إخراج الإسلام من الحكومة والمساحات العامة.
لكن في حين “أبطل” أتاتورك تصنيف «آيا صوفيا» “كمسجد”، قبل ما يقرب من مائة عام، يبدو أن أردوغان يريد إعادة هذا الطابع إليها من أجل تعزيز ثورته الدينية – وهي ثورة تغلغلت بإطراد في الحكومة والمساحات العامة التركية من خلال نسخته المحافظة للإسلام. ويكتسي اتخاذ مثل هذه الخطوة في اسطنبول أهمية خاصة بالنسبة لأردوغان نظراً إلى الرمزية الكبيرة التي تحملها المدينة في حياته الخاصة والمهنية. فقد وُلِد فيها في عام 1954، وظهر على الساحة السياسية الوطنية بعد أن أصبح رئيساً للبلدية في عام 1994، مستخدماً المنصب كنقطة انطلاق لمسيرته المستمرة كأقوى زعيم منتخب في تاريخ تركيا.
ومنذ سنوات كان أردوغان يرعى بناء مساجد كبيرة في اسطنبول كوسيلة لترك بصمته السياسية والدينية الراسخة فيها. ففي آذار/ مارس 2019، أشرف على افتتاح “جامع تشامليجا” المعروف بشكل غير رسمي كـ “مسجد أردوغان”، وهو مبنى ضخم تمّ تشييده على تلة عالية من أجل تغيير أفق المدينة المذهل بشكل دائم. كذلك، توشك الأعمال في جامع كبير آخر يدعمه أردوغان على الانتهاء، وهو مسجد وُضع للأسف في “ساحة تقسيم” المركزية في اسطنبول التي لم تضم تاريخياً أي مسجد. هذا وستكون إعادة تحويل “آيا صوفيا” إلى معلم إسلامي بمثابة تكملة لهذه الثلاثية الضخمة من المساجد التي تحدد الإرث في مسقط رأسه.
ولكن هل ستعزز شعبيته؟
إن توجّه أردوغان نحو بناء مساجد له دوافع سياسية أكثر وضوحاً أيضاً. فكونه قائداً شعبوياً يحرص على مصالح المواطنين [ويفضلها على مصالح المهاجرين]، فلا شك أنه يهدف إلى استغلال الجدل الناتج عن عملية التحويل لدعم سردية التضحية التي غالباً ما يروّج لها في أوساط قاعدته. وفي هذه الحالة ستكون رسالته: “كيف يجرؤ هؤلاء العلمانيون على حرماننا نحن المسلمين المتدينين من ‘ الحرية ‘ للصلاة في “آيا صوفيا”؟”
ولكن من غير المرجح أن تنجح هذه الاستراتيجية. فمنذ عام 2002، فاز أردوغان بأكثر من إثني عشرة انتخابات على صعيد البلاد وبشكل أساسي بفضل النمو الاقتصادي القوي الذي شهدته تركيا. ومع ذلك، فحالما بدأ الركود في عام 2018، بدأت شعبيته بالتراجع، وخسر مرشحوه الذين تم اختيارهم بعناية انتخابات البلديات في اسطنبول ومدن رئيسية أخرى في عام 2019. ويعاني الاقتصاد الآن من ركود آخر بسبب الوباء العالمي الناتج عن فيروس كورونا، وتُظهر استطلاعات الرأي تراجع شعبيته بصورة أكثر. وبالتالي، فحتى إذا زاد تحويل “آيا صوفيا” من رصيده ببضع نقاط مئوية، فمن غير المحتمل أن يستمر الدعم. وليس هناك [هدف جامع] سوى النمو الاقتصادي القوي الذي سيعيد الشعبية الأوسع التي كان يتمتع بها ذات مرة.
التداعيات في الخارج
إذا تم تحويل المبنى بالكامل، فسيلحق ذلك ضرراً كبيراً – قد يكون غير قابل للإصلاح – على صورة تركيا على الساحة الدولية. فلطالما عكس إبقاء “آيا صوفيا” متحفاً انفتاح تركيا – وبشكل خاص استعدادها المعلن لاحتضان ماضيها المسيحي ومواطنيها المسيحيين والدول المجاورة لها ذات الأغلبية المسيحية. وبما أن متحف “آيا صوفيا” هو المعلم الذي يزوره العدد الأكبر من السياح الأجانب في البلاد، فهو يُعتبر من نواحٍ عديدة الصورة العالمية لتركيا.
وبالنسبة للمسؤولين في واشنطن والحكومات الحليفة الأخرى الذين يدرسون الطريقة الأفضل لثني أردوغان عن سلوك هذا المسار المؤذي، من المرجح أن تجري هذه المحادثات في المجالس الخاصة بالنظر إلى الحساسيات المحلية للمسألة. ولكن إذا قررت إدارة ترامب التعليق علناً، فيجب أن يسلّط تصريحها الضوء على تاريخ تركيا الطويل الذي يدعو للفخر بمدى تسامحها الديني – وأن يشجع أنقرة على الابتعاد عن الخطوات الأخرى التي تقوّض هذا التقليد. كما يجب حث تركيا على الحفاظ على إرث “آيا صوفيا” المتعدد الثقافات والسماح للعامة برؤية الأيقونات الدينية التي يحتويها هذا المعلم، مع الأخذ في الاعتبار أنّ وصول العامة إليها خلال الجزء الأكبر من حقبة الإمبراطورية العثمانية كان دون عوائق.
*سونر چاغاپتاي هو زميل “باير فاميلي” في معهد واشنطن ومؤلف الكتاب “إمبراطورية أردوغان: تركيا وسياسة الشرق الأوسط“.