رغم أوزار السنين، وقسوة الستّين، ما زلت أذكر كلّ شيءٍ عن طفولتي وشبابي، المدارسَ والصفوفَ والأقربينَ من أصحابي، وفرحة أمّي بتفوّقي، أكادُ أبْصرُها الآن، والدمع في عينيها، وكلّ شيءٍ لديها، ينبض حبّا أزليّ المدى، ما زال عالقا، بدفاتري وثيابي، وأذكر الإصطفافَ في يوم الخميس، وتحيّة العلم، والجموع تصدحُ بالنشيد (موطني..موطني، ولاحت رؤوسُ الحرابِ)، كان الوطن حبّا في القلوب، ونقشا على الحيطان والأبواب، ومضى قطارُ العمر، ودارت الأيامُ دورتَها، حتّى شاخت النفوس، وآشتعل الشيبُ في ليالي الرؤوس، ستّونَ عاماً ثقيلاتٍ مضين، تعوي بهنّ الرياحُ الهوج، والمقاديرُ الكوابي، ستّون عاما ونحن نسبح في دمانا، والدماء إلى الركابِ، وما لاحت رؤوسُ الحرابِ، ولم يعش في علوٍّ ذلك العلم، بل داسته أقدامُ الغزاة، واستحالَ النشيدُ إلى خراب، فيا نفسُ لا تَهِنِي على البلوى، وانحني على المثخنات من الجراح، وشدّي عليها نياط الصبر شدّاً، وعصّبي الأعصاب بالأعصاب، حتى يحضن الشريان نازفهُ على الموتِ، وعلى الداميات من العذاب، ويا أحشائنا إنخسفي خسفا على الظهرِ، ولا تيأسي من الصبر المخضّبِ أو تُحابي، غدا سينجلي الليل الطويل، وتنهض الأيام من عثرتها، ويحصد الزارعون ما زرعوا، والأيامُ دوائرٌ، والحادثاتُ خوابي..
شاهد أيضاً
لا تيأسوا.. بقلم ضياء الوكيل
يا أيّها الناس.. لا تقولوا الوداع، فكلّنا في غدٍ راحلون، (وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنتُمُ الْأَعْلَوْنَ)*، وليكن قبري وطنْ.. وقصّةَ موتي ولادة..