ترافقَ أولَ راتبٍ استلمتَهُ من الجيش بصورتين لن أنساهُما أبداً..
الصورةُ الأولى: شعرتُ بسعادةٍ غامرة وأنا أقبّلُ رأسَ والدي ويديه(رحمهُ الله) وأسلّمهُ راتبي الأول بامتنان ورضا وطاعة الإبن لأبيه، ولاحظت سحابة الدمع تلمعُ في عينيه وهو يشكر الله أنّ إبنه أصبح رجلا يشاركه مسؤولية البيت، وأذكر كلمته التي قالها بعفوية وصدق في ذلك الموقف (هذا إبنُ الرحمن)..
الصورة الثانية: أتذكر أنّ أحد الجنود عثر على راتب زميل له كان قد فقده بعد استلامه، وقام بتسليمه الى عريف فصيله، وقد حظي هذا الجندي بثناء ومديح واحتفاء كبير، وأطلقوا عليه أوصافا مختلفة ومنها(إبن خير،شريف،أمين)،واستقبله آمر التشكيل وأهداه ساعته الشخصية ومكافأة مجزية تقديرا لأمانته..
هكذا كانت المواقفُ والحكايات، وهكذا تعلمنا كيفَ يجود الرجال، وقد أرضعتهم الأمهات والأرض الطيبة قيم الصدق والأخلاق والرجولة، وهذّبهم الأباء، وغرسوا فيهم معاني الإباء والوفاء والأمانة، وهذه الصور التي صارت قديمة في نظر البعض، نحن بأمس الحاجةِ إليها، وهي موجودة فعلا لكنها معزولة، أو منعزلة طوعا، والعراق لا يخلو من أهل الخير والضمائر الحيّة (والحظ والبخت) كما يقال، لكنهم كالقابضون على الجمر في زمن الفساد والفتنة، وذلك قدر وامتحان ومحنة، امتحانٌ للضمائرِ والسرائرِ والإيمان، ومعدنِ الإنسان (والمعدنُ الأصيل محكّهُ اللَّهَب)، وشتان ما بينَ الرأسِ عندَ الشّدائدِ والذَّنَب..