جيل الثلاثين
كل جيل يكون «جيلاً جديدًا» في مرحلة ما، ثم يصبح «الجيل السابق» في مرحلة لاحقة. مسؤولية الجيل الجديد أن يحافظ على ما تسلّم، وأن يسعى إلى تطويره، ومسؤولية الجيل السابق أن يسلم ما قد ورث بكل أمانة وصون. عمالقة أوروبا في الستينات سلموا مقاديرها إلى الجيل التالي.
رجال من طبقة نادرة وخبرة نادرة وصلوا إلى الحكم وأوروبا دمار.. وسلموها بناءً وكفاية. كونراد أديناور وشارل ديغول وهارولد ماكميلان. جاء ماكميلان بعد هزيمة السويس، وأدرك أن الخطأ الكبير كان في محاولة تغيير مصر. من يجب أن يتغير هو بريطانيا. وبريطانيا يجب أن تتغير لأن العالم كله يتغير. لقد استعمرنا مصر بسبب بالهند، والآن لم تعد الهند استعمارًا اقتصاديًا مجديًا. طفق البريطانيون يتخلّصون من مستعمراتهم بأقل خسائر ممكنة، بينما غرق الفرنسيون في أحلام دموية إلى أن جاء ديغول موقنًا بأنه لم يعد لأحد في العالم ألا يكون مستقلاً.
وأديناور مضى يبني ألمانيا بدل أن يدمّر جيرانها. وكان وزير مالية ديغول رجلا في الثلاثينات يدعى فاليري جيسكار ديستان. وامتلأت الإدارة البريطانية بالشبّان. ورأت الملكة نفسها تقلد وسام الشرف لأربعة خنافس يغنون أغاني مفهومة بلهجة الضواحي مأخوذة من التراث الزنجي في أميركا.
تغيرت الملابس والأفلام والهندسة وعادات الطعام. وبدل الوجبات الطويلة، صار الفرنسيون يتناولون الساندويتشات في «المترو». وحتى في العالم العربي أخذت الأغاني القصيرة تحل محل المطولات. وكادت فيروز تنافس ليالي أم كلثوم. وملأ فؤاد شهاب الإدارة اللبنانية بشبان في الثلاثينات من العمر. وعندما جاء سليمان فرنجية كانت أولى حكوماته «حكومة الشباب»، مجموعة من الوزراء غير المعروفين من قبل.
يأتي يوم يحل فيه الفصل بين جيل وجيل. وتلك مسألة لا تقررها الأجيال، بل الأقدار والأدوار. سبعون في المائة من السعوديين دون الثلاثين من العمر. والنسبة نفسها في مصر. حكمة الكبار وحيوية الشباب. هكذا هي دورة الأمم واستمرار الدول. وتلك هي القاعدة القديمة والبسيطة: حكاية الرجل الذي مر بمُزارع عجوز يغرس زيتونة طفله، فقال له إنها لن تُطعمك قبل سنين، فلِمَ تزرعها؟ فأكمل الرجل الغرس وهو يقول: «زرعوا فأكلنا، ونزرع فيأكلون».
جيلان لهما مهمة واحدة: الحفاظ على ما يرثون وما يورِّثون. ومن يعبث بالأمانة يكون أول ضحايا العبث.