الشاعر 56 عند الأديب 9
جئت من نيويورك إلى باريس. ليس للمرة الأولى. ولا أنا المسافر الوحيد. هناك 500 ألف مسافر جوًا كل يوم. وهناك 8 رحلات للخطوط الفرنسية من نيويورك يوميًا، لم أعثر على مقعد عليها إلا بعد أسبوع. ما بين نيويورك وباريس عالمان.. لغتان عالميتان. نهج حياتي مختلف. معالم مختلفة. واحدة عمرها ألف عام، وواحدة قرنان. واحدة حياتها 24 ساعة من الحركة كل يوم، وواحدة 16 ساعة. واحدة لها نهر جميل، وواحدة نهران كبيران يضاف إليهما المحيط. واحدة تمثل الاندفاع الأنغلوسكسوني، الذي لا نهاية له، وواحدة تمثل الانكفاء الفرانكوفي الكئيب وغير المبرر.
واحدة تمثل المستقبل الغني، وواحدة الماضي الجميل. هذه الرحلة لاحظت، للمرة الأولى، شيئًا قديمًا.. نيويورك أسهل مدن العالم للتنقل. كل جادة لها رقم ولها شوارع تتصل بها، أيضًا بأرقام: 5/ 56 أو 6/ 58 وتصل. وأما واشنطن فجاداتها وشوارعها تحمل الأحرف الأبجدية.. لام وميم، سين وجيم.
باريس تحمل الأسماء.. لامارتين، وبلزاك، وبودلير. بيوت لندن التي يمنع مسها تحمل أسماء الكتّاب والفنانين. محطات الباص في دبلن تحمل أسماء أجمل الشعراء والروائيين في القرن الماضي، وأحيانًا، أسماء أبطالهم أيضًا. هل أنت مع سرعة التنقل، أم مع عبق التاريخ والأدب؟ الشوارع والجادات والساحات ذاكرة لا أرقام ولا أبجدية. الأرقام لا تنتمي إلى عصر ولا تعبر عن شيء. في نيويورك شارع اسمه «وول ستريت»، وهو أشهر اسم لشارع في العالم.. أكثر شهرة، ربما، من جادة الشانزليزيه وبوليفار السان جيرمان. عندما تخرج من نيويورك تدخل في حديقة أو غابة من الأسماء. بلدة بأكملها في ولاية نيويورك تدعى لبنان. واسم لبنان يرتفع على عشرات الشوارع في عشرات المدن. وكذلك اسم إسكندرية. أو ماربيا. أو طليطلة. مهاجرون كانوا يصلون إلى بلاد بلا تاريخ فيعطون الأرض الجديدة أسماء قديمة من تاريخهم. سوف تجد غرناطة في كل ولاية أميركية. والقاهرة ولندن وجادات الأرز تبعد آلاف الأميال عن أرز لبنان وأرز إفران في المغرب.
في بيروت أعطي اسم المتنبي لأسوأ الشوارع سمعة في المدينة. لكن «سوليدير» حلت المشكلة، معماريًا وأخلاقيًا. وفي بغداد أطلق اسم المتنبي على شارع الكتب والمكتبات، لكن الفقر لحق به كما لحق بسواه، وضاعت منه أهم وأجمل الكتب النادرة. احذروا الأرقام فإنها لا تعني شيئًا. النصّاب مادوف سطا على المليارات من أموال الناس، وهو يصرفها تحت رقم متسلسل مع سجناء نيويورك. الأسماء أبقى. السمعة أبقى. والسيف ليس دائمًا أصدق أنباء من الكتب.