خلافة عباس.. من؟ وكيف؟
تتولى الصحافة الجزء الأكبر من عملية تزويد الرأي العام الفلسطيني بأسماء الخلفاء المحتملين للرئيس محمود عباس، وفي ساحة كالساحة الفلسطينية يلعب الإعلام فيها الدور الرئيسي في وضع عناوين قضايا الحوار ومضامينها، تتدحرج الأسماء مثل كرة الثلج، فيصبح من يرد اسمه في الإعلام مرشحًا بديهيًا للخلافة، فتسلط الأضواء عليه ويتكرس كنجم سياسي ولا غرابة في أن تجد من يتقرب منه، فلعل وعسى أن يكون رئيسًا.
غير أن من ترشحهم الصحافة، ينتمون جميعًا إلى الطبقة السياسية التي أفرزت الرئيس محمود عباس، وهذه الطبقة هي التي زوّدت الحياة الفلسطينية على مدى عقود بالأسماء والمواصفات، في إطار حركة فتح ومنظمة التحرير، وعوّدت الناس على فكرة صارت بحاجة إلى مزيد من التمحيص والتدقيق، مفادها أن من ترضى عنه هذه الطبقة وتتبناه يضمن الظفر بالموقع الأول تمامًا مثلما ظفر به ياسر عرفات الفتحاوي الأول ومحمود عباس الفتحاوي الثاني.
ولقد دققت جيدًا في الأسماء المتداولة فوجدت بعضها منطقيًا والبعض الآخر صعبًا والغالبية مستحيلة، ووفق هذا التصنيف لم وأغلب الظن لن يوجد اسم واحد يحظى بأغلبية الشارع الفلسطيني، خصوصًا بعد أن تراجع نفوذ فتح بصورة ملحوظة، وصعدت أسهم حماس حد تهديد نفوذ فتح في معاقلها التي كانت مسجلة باسمها منذ عقود، وهذا الوضع يجعل من الاستثمار في زعامة الساحة الفلسطينية أمرًا غير مضمون من حيث المردود، فلا دولة إقليمية أو حتى كونية تملك نفوذًا مقررًا في هذا الأمر، ولا القوى السياسية الفلسطينية التي تسمى بالفصائل تمتلك عمقًا شعبيًا ينجب رئيسًا بالاتفاق.
حتى إسرائيل التي تتولى صحافتها طرح الأسماء والفرص يبدو دعمها وتسهيلاتها لأي اسم عبئًا أكثر منه ميزة، وكذلك الأمر وإن بنسب متفاوتة لأي دولة ترغب في الاستثمار على صعيد الرئاسة الفلسطينية الأولى.
إن التمزق الذي أحدثه وكرّسه الاستقطاب الحاد بين فتح وحماس، وما بني عليه من استقطابات فرعية متحركة وغالبًا متقلبة، أدّى إلى استحالة تكريس مرشح أو اثنين أو أكثر على نحو يجعل الرئاسة الفلسطينية أكثر سلاسة، وفي حالة كهذه التي وصفتها في الجزء الأول من هذه المقالة بالأحجية، فإن المخرج الوحيد الذي مهما بدا صعبًا إلا أنه المتاح، هو اللجوء قسريًا إلى صندوق الاقتراع وعلى الطريقة المصرية لأننا لا نحب استخدام جملة الطريقة الأميركية، أي أن يُفتح باب الترشح لمن ينطبق عليه القانون والفائز بواحد وخمسين في المائة هو الرئيس الشرعي الذي يتعين على العالم اعتماده والتعامل معه ودعمه وتهيئة الإمكانات الكفيلة بنجاحه، وإن لم يحصل على هذه النسبة وهو غالبًا لن يحصل عليها فتعاد الانتخابات بين أعلى اثنين، وبالمناسبة فإن هذا السيناريو المصري منصوص عليه في النظام الأساسي للسلطة الوطنية الفلسطينية.
لا أنفي الصعوبات الموضوعية والمصطنعة التي يستفيد منها من يحبون بقاء الوضع على حاله إلى الأبد، إلا أن بدائل هذا السيناريو تبدو مستحيلة وخصوصًا حين يذهب التفكير والجهد نحو إيجاد صيغة توافقية على رئيس لا يخرج من صندوق الاقتراع.
إن الانتخابات الرئاسية التي جرت في فلسطين مرتين، وأنتجت ياسر عرفات ومحمود عباس، هي أضمن وأنجع آلية لحسم قضية الموقع الأول على رأس الهرم الفلسطيني، وقد تأتي الانتخابات بشخصية تفوز بفارق ضئيل من الأصوات، أو ربما فارق كبير، إلا أن هذا الفارق هو بيضة القبان التي تمنح الشرعية والمصداقية، وهذا السيناريو بحاجة إلى دور مباشر من جانب الدول المعنية باستقرار الوضع القيادي الفلسطيني، وإبعاده عن الفوضى والاصطراع الحاد، كأن تبدأ من الآن جهود دعم خيار الانتخابات وتوفير الإمكانات الفعلية لنجاحها والمساهمة المسبقة في تكريس نتائجها وذلك لا يسجل تحت بند التدخل في الشؤون الداخلية الفلسطينية، بقدر ما هو إسهام إيجابي وضروري لإنقاذ الوضع الفلسطيني من كوارث الفراغ القيادي حال خلو منصب الرئيس لأي سبب، وعدم خروج خليفته من صندوق الاقتراع، في هذا الاتجاه ومن خلال التدقيق في واقع الشرعيات الفلسطينية فإننا نجد شرعية واحدة محسومة بنيت عليها كل الشرعيات، إنها المجلس الوطني برلمان الشعب الفلسطيني، الذي وضع برامج النضال الوطني منذ بداية الثورة وأمّن شرعيات ضرورية، للكيانات الوطنية التي نشأت وتكرست على مدى عقود، وأمّن حياة ديمقراطية عصرية بديلة عن الفوضى والاحتكام إلى السلاح، هذا المجلس الذي من خلال مشاركتي الفعالة في جميع دوراته أعرف شوائبه وثغراته، إلا أن شرعيته لم تمس حتى الآن ولا تنتهي هذه الشرعية إلا حين تسمية مجلس جديد يتولى المسؤوليات مباشرة دون فراغ ولو لدقيقة واحدة، وهذا المجلس هو المؤهل الوحيد لفرض موعد محدد لإجراء الانتخابات الرئاسية والتشريعية للسلطة كونه وفق النظام الأساسي المسؤول المباشر عن السلطة الوطنية وفي هذا نص دستوري لا لبس فيه ولا غموض، وبوسع المجلس الوطني أن يتخذ قرارات ملزمة ومسبقة، بالالتزام بنتائج الانتخابات مهما كانت، وتحريم الخروج عنها من أي طرف كان، وضروري هنا وأساسي أن تكون جامعة الدول العربية عرّابة لهذا الاتجاه وضامنة له وحتى شريكة في التحضير، وإنجاز العملية من ألفها إلى يائها.